الَّتِي وَصَفَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لَمْ أكدْ أَرَى فُلَانًا، إِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ رُؤْيَتَهُ بَعْدَ جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، وَمِنْ دُونِ الظُّلُمَاتِ الَّتِي وَصَفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا لَا يَرَى النَّاظِرُ يَدَهُ إِذَا أَخْرَجَهَا فِيهِ، فَكَيْفَ فِيهَا؟ قِيلَ: فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ نَذْكُرُهَا، ثُمَّ نُخْبِرُ بِالصَّوَابِ مِنْ ذَلِكَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ رَائِيًا لَهَا لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا؛ أَيْ: لَمْ يَعْرِفْ مِنْ أَيْنَ يَرَاهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَرَهَا، وَيَكُونَ قَوْلُهُ: {لَمْ يَكَدْ} [النور: 40] فِي دُخُولِهِ فِي الْكَلَامِ، نَظِيرَ دُخُولِ الظَّنِّ فِيمَا هُوَ يَقِينٌ مِنَ الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ: {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصِ} [فصلت: 48] وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَآهَا بَعْدَ بُطْءٍ وَجَهْدٍ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِآخَرَ: مَا كِدْتُ أَرَاكَ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَقَدْ رَآهُ، وَلَكِنْ بَعْدَ إِيَاسَ وَشِدَّةٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ أَظْهَرُ مَعَانِي الْكَلِمَةِ مِنْ جِهَةِ مَا تَسْتَعْمِلَ الْعَرَبُ (أَكَادُ) فِي كَلَامِهَا. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ الَّذِي قُلْنَا إِنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى: لَمْ يَرَهَا، قَوْلٌ أَوْضَحُ مِنْ جِهَةِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ أَخْفَى مَعَانِيهِ. وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، أَعْنِي: أَنْ يَقُولَ: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا , مَعَ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ الَّتِي ذَكَرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَثَلٌ , لَا خَبَرٌ عَنْ كَائِنٍ كَانَ. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا} [النور: 40] يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ إِيمَانًا , وَهُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ ,