حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ، وَكَانَ لَهُ عِلْمٌ بِالْأَحَادِيثِ الْأُوَلِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ذُو الْقَرْنَيْنِ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ، ابْنُ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِهِمْ، لَيْسَ لَهَا وَلَدٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ اسْمُهُ الْإِسْكَنْدَرَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ أَنَّ صَفْحَتَيْ رَأْسِهِ كَانَتَا مِنْ نُحَاسٍ، فَلَمَّا بَلَغَ وَكَانَ عَبْدًا صَالِحًا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنِّي بَاعِثُكَ إِلَى أُمَمِ الْأَرْضِ، وَهِيَ أُمَمٌ مُخْتَلِفَةٌ أَلْسِنَتُهُمْ، وَهُمْ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَمِنْهُمْ أُمَّتَانِ بَيْنَهُمَا طُولُ الْأَرْضِ كُلُّهُ، وَمِنْهُمْ أُمَّتَانِ بَيْنَهُمَا عَرْضُ الْأَرْضِ كُلُّهُ، وَأُمَمٌ فِي وَسَطِ الْأَرْضِ مِنْهُمُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ فَأَمَّا الْأُمَّتَانِ اللَّتَانِ بَيْنَهُمَا طُولُ -[391]- الْأَرْضِ: فَأُمَّةٌ عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، يُقَالُ لَهَا: نَاسِكٌ. وَأَمَّا الْأُخْرَى: فَعِنْدَ مَطْلِعِهَا يُقَالُ لَهَا: مَنْسَكٌ. وَأَمَّا اللَّتَانِ بَيْنَهُمَا عَرْضُ الْأَرْضِ، فَأُمَّةٌ فِي قُطْرِ الْأَرْضِ الْأَيْمَنِ، يُقَالَ لَهَا: هَاوِيلُ. وَأَمَّا الْأُخْرَى الَّتِي فِي قُطْرِ الْأَرْضِ الْأَيْسَرِ، فَأُمَّةٌ يُقَالُ لَهَا: تَاوِيلُ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ لَهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ: إِلَهِيَ إِنَّكَ قَدْ نَدَبْتَنِي لِأَمْرٍ عَظِيمٍ لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ إِلَّا أَنْتَ، فَأَخْبِرْنِي عَنْ هَذِهِ الْأُمَمِ الَّتِي بَعَثْتَنِي إِلَيْهَا، بِأَيِّ قُوَّةٍ أُكَابِرُهُمْ؟ وَبِأَيِّ جَمْعٍ أُكَاثِرُهُمْ؟ وَبِأَيِّ حِيلَةٍ أُكَايِدُهُمْ؟ وَبِأَيِّ صَبْرٍ أُقَاسِيهِمْ؟ وَبِأَيِّ لِسَانٍ أُنَاطِقُهُمْ؟ وَكَيْفَ لِي بِأَنْ أَفْقَهَ لُغَاتِهِمْ؟ وَبِأَيِّ سَمْعٍ أَعِيَ قَوْلَهُمْ؟ وَبِأَيِّ بَصَرٍ أُنْفِذُهُمْ؟ وَبِأَيِّ حُجَّةٍ أُخَاصِمُهُمْ؟ وَبِأَيِّ قَلْبٍ أَعْقِلُ عَنْهُمْ؟ وَبِأَيِّ حِكْمَةٍ أُدَبِّرُ أَمْرَهُمْ؟ وَبِأَيِّ قِسْطٍ أَعْدِلُ بَيْنَهُمْ؟ وَبِأَيِّ حِلْمٍ أُصَابِرُهُمْ؟ وَبِأَيِّ مَعْرِفَةٍ أَفْصِلُ بَيْنَهُمْ؟ وَبِأَيِّ عِلْمٍ أُتْقِنُ أُمُورَهُمْ؟ وَبِأَيِّ يَدٍ أَسْطُو عَلَيْهِمْ؟ وَبِأَيِّ رِجْلٍ أَطَؤُهُمْ، وَبِأَيِّ طَاقَةٍ أَخْصِمُهُمْ، وَبِأَيِّ جُنْدٍ أُقَاتِلُهُمْ؟ وَبِأَيِّ رِفْقٍ أَسْتَأْلِفُهُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي يَا إِلَهِيَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتُ يَقُومُ لَهُمْ، وَلَا يَقْوَى عَلَيْهِمْ وَلَا يُطِيقُهُمْ، وَأَنْتَ الرَّبُّ الرَّحِيمُ الَّذِي لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَلَا يُحَمِّلُهَا إِلَّا طَاقَتَهَا، وَلَا يُعَنِّتُهَا وَلَا يَفْدَحُهَا، بَلْ أَنْتَ تَرْأَفُهَا وَتَرْحَمُهَا. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنِّي سَأُطَوِّقُكَ مَا حَمَلْتُكَ، أَشْرَحُ لَكَ صَدْرَكَ، فَيَسَعُ كُلَّ شَيْءٍ وَأَشْرَحُ لَكَ فَهْمَكَ فَتَفْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَبْسُطُ لَكَ لِسَانَكَ فَتَنْطِقُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَفْتَحُ لَكَ -[392]- سَمْعَكَ فَتَعِي كُلَّ شَيْءٍ، وَأَمُدُّ لَكَ بَصَرَكَ، فَتَنْفُذُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُدَبِّرُ لَكَ أَمْرَكَ فَتُتْقِنُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَحْصِي لَكَ فَلَا يَفُوتُكَ شَيْءٌ، وَأَحْفَظُ عَلَيْكَ فَلَا يَعْزُبُ عَنْكَ شَيْءٌ، وَأَشُدُّ لَكَ ظَهْرَكَ، فَلَا يَهِدُّكَ شَيْءٌ، وَأَشُدُّ لَكَ رُكْنَكَ فَلَا يَغْلِبُكَ شَيْءٌ، وَأَشَدُّ لَكَ قَلْبَكَ فَلَا يَرُوعُكَ شَيْءٌ، وَأُسَخِّرُ لَكَ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ، فَأَجْعَلُهُمَا جُنْدًا مِنْ جُنَودِكَ، يَهْدِيكَ النُّورُ أَمَامَكَ، وَتَحُوطُكَ الظُّلْمَةُ مِنْ وَرَائِكَ، وَأَشَدُّ لَكَ عَقْلَكَ فَلَا يَهُولُكَ شَيْءٌ، وَأَبْسُطُ لَكَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ، فَتَسْطُو فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأُشُدُّ لَكَ وَطْأَتَكَ، فَتَهُدُّ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُلْبِسُكَ الْهَيْبَةَ فَلَا يَرُومُكَ شَيْءٌ. وَلَمَّا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، انْطَلَقَ يَؤُمُّ الْأُمَّةَ الَّتِي عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ، وَجَدَ جَمْعًا وَعَدَدًا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ، وَقُوَّةً وَبَأْسًا لَا يُطِيقُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَأَلْسِنَةً مُخْتَلِفَةً وَأَهْوَاءً مُتَشَتِّتَةً، وَقُلُوبًا مُتَفَرِّقَةً، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ كَاثَرَهُمْ بِالظُّلْمَةِ، فَضَرَبَ حَوْلَهُمْ ثَلَاثَةَ عَسَاكِرَ مِنْهَا، فَأَحَاطَتْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَحَاشَتْهُمْ حَتَّى جَمَعَتْهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِمْ بِالنُّورِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ، فَعَمَدَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا عَنْهُ، فَأَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الظُّلْمَةَ. فَدَخَلَتْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَأُنُوفِهِمْ وَآذَانِهِمْ وَأَجْوَافِهِمْ، وَدَخَلَتْ فِي بُيُوتِهِمْ وَدُورِهِمْ، وَغَشِيَتْهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ وَمِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْهُمْ، فَمَاجُوا فِيهَا وَتَحَيَّرُوا، فَلَمَّا أَشْفَقُوا أَنْ يَهْلِكُوا فِيهَا عَجُّوا إِلَيْهِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، فَكَشَفَهَا عَنْهُمْ وَأَخَذَهُمْ عَنْوَةً، فَدَخَلُوا فِي دَعْوَتِهِ، فَجَنَّدَ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ أُمَمًا عَظِيمَةً، فَجَعَلَهُمْ جُنْدًا وَاحِدًا، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِمْ يَقُودُهُمْ، وَالظُّلْمَةُ تَسُوقُهُمْ مِنْ خَلْفِهِمْ -[393]- وَتَحْرُسُهُمْ مِنْ حَوْلِهِمْ، وَالنُّورُ أَمَامَهُمْ يَقُودُهُمْ وَيَدُلُّهُمْ، وَهُوَ يَسِيرُ فِي نَاحِيَةِ الْأَرْضِ الْيُمْنَى، وَهُوَ يُرِيدُ الْأُمَّةَ الَّتِي فِي قُطْرِ الْأَرْضِ الْأَيْمَنِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا هَاوِيلُ، وَسَخَّرَ اللَّهُ لَهُ يَدَهُ وَقَلْبَهُ وَرَأْيَهُ وَعَقْلَهُ وَنَظَرَهُ وَائْتِمَارَهُ، فَلَا يُخْطِئُ إِذَا ائْتُمِرَ، وَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَتْقَنَهُ. فَانْطَلَقَ يَقُودُ تِلْكَ الْأُمَمَ وَهِيَ تَتْبَعُهُ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى بَحْرٍ أَوْ مَخَاضَةٍ بَنَى سُفُنًا مِنْ أَلْوَاحٍ صِغَارٍ أَمْثَالِ النِّعَالِ، فَنَظَمَهَا فِي سَاعَةٍ، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا جَمِيعَ مَنْ مَعَهُ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ وَتِلْكَ الْجُنُودِ، فَإِذَا قَطَعَ الْأَنْهَارَ وَالْبِحَارَ فَتَّقَهَا، ثُمَّ دَفَعَ إِلَى كُلِّ إِنْسَانٍ لَوْحًا فَلَا يُكْرِثُهُ حَمْلُهُ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ دَأْبُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى هَاوِيلَ، فَعَمِلَ فِيهَا كَعَمَلِهِ فِي نَاسَكَ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا مَضَى عَلَى وَجْهِهِ فِي نَاحِيَةِ الْأَرْضِ الْيُمْنَى حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَنْسَكٍ عِنْدَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ، فَعَمِلَ فِيهَا وَجَنَّدَ مِنْهَا جُنُودًا، كَفِعْلِهِ فِي الْأُمَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا، ثُمَّ كَرَّ مُقْبِلًا فِي نَاحِيَةِ الْأَرْضِ الْيُسْرَى، وَهُوَ يُرِيدُ تَاوِيلَ وَهِيَ الْأُمَّةُ الَّتِي بِحِيَالِ هَاوِيلَ، وَهُمَا مُتَقَابِلَتَانِ بَيْنَهُمَا عَرْضُ الْأَرْضِ كُلُّهُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا عَمِلَ فِيهَا، وَجَنَّدَ مِنْهَا كَفِعْلِهِ فِيمَا قَبْلَهَا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا عَطَفَ مِنْهَا إِلَى الْأُمَمِ الَّتِي وَسَطَ الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَسَائِرِ النَّاسِ، وَيَأْجُوجُ -[394]- وَمَأْجُوجُ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ مَا يَلِي مُنْقَطَعَ التُّرْكِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، قَالَتْ لَهُ أُمَّةٌ مِنَ الْإِنْسِ صَالِحَةٌ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِنَّ بَيْنَ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ خَلْقًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مُشَابِهِ لِلْإِنْسٍ، وَهُمْ أَشْبَاهُ الْبَهَائِمِ، يَأْكُلُونَ الْعُشْبَ، وَيَفْتَرِسُونَ الدَّوَابَّ وَالْوُحُوشَ كَمَا تَفْتَرِسُهَا السِّبَاعُ، وَيَأْكُلُونَ خَشَاشَ الْأَرْضِ كُلِّهَا مِنَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ، وَكُلَّ ذِي رُوحٍ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، وَلَيْسَ لِلَّهِ خَلْقٌ يَنْمُو نَمَاءَهُمْ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَزْدَادُ كَزِيَادَتِهِمْ، وَلَا يَكْثُرُ كَكَثْرَتِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مُدَّةٌ عَلَى مَا نَرَى مِنْ نَمَائِهِمْ وَزِيَادَتِهِمْ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ سَيَمْلَئُونَ الْأَرْضَ، وَيُجْلُونَ أَهْلَهَا عَنْهَا وَيَظْهَرُونَ عَلَيْهَا فَيُفْسِدُونَ فِيهَا، وَلَيْسَتْ تَمُرُّ بِنَا سَنَةٌ مُنْذُ جَاوَرْنَاهُمْ إِلَّا وَنَحْنُ نَتَوَقَّعُهُمْ، وَنَنْتَظِرُ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْنَا أَوَائِلُهُمْ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95] أَعِدُّوا إِلَيَّ الصُّخُورَ وَالْحَدِيدَ وَالنُّحَاسَ حَتَّى أَرْتَادَ بِلَادَهُمْ، وَأَعْلَمَ عِلْمَهُمْ، وَأَقْيَسَ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهِمْ. ثُمَّ انْطَلَقَ يَؤُمُّهُمْ حَتَّى دَفَعَ إِلَيْهِمْ وَتَوَسَّطَ بِلَادَهُمْ، فَوَجَدَهُمْ عَلَى مِقْدَارٍ وَاحِدٍ، ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، مَبْلَغُ طُولِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مِثْلُ نِصْفِ الرَّجُلِ الْمَرْبُوعِ مِنَّا، لَهُمْ مَخَالِبُ فِي مَوْضِعِ الْأَظْفَارِ مِنْ أَيْدِينَا، وَأَضْرَاسٌ وَأَنْيَابٌ كَأَضْرَاسِ السِّبَاعِ وَأَنْيَابِهَا، وَأَحْنَاكٌ كَأَحْنَاكِ الْإِبِلِ -[395]- قُوَّةً تُسْمَعُ لَهَا حَرَكَةٌ إِذَا أَكَلُوا كَحَرَكَةِ الْجِرَّةِ مِنَ الْإِبِلِ، أَوْ كَقَضْمِ الْفَحْلِ الْمُسِنِّ، أَوِ الْفَرَسِ الْقَوِيِّ، وَهُمْ هُلْبٌ، عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّعْرِ فِي أَجْسَادِهِمْ مَا يُوَارِيهِمْ، وَمَا يَتَّقُونَ بِهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ إِذَا أَصَابَهُمْ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أُذُنَانِ عَظِيمَتَانِ: إِحْدَاهُمَا وَبَرَةٌ ظَهْرُهَا وَبَطْنُهَا، وَالْأُخْرَى زُغْبَةٌ ظَهْرُهَا وَبَطْنُهَا، تَسِعَانِهِ إِذَا لَبِسَهُمَا، يَلْتَحِفُ إِحْدَاهُمَا، وَيَفْتَرِشُ الْأُخْرَى، وَيَصِيفُ فِي إِحْدَاهُمَا، وَيَشْتَى فِي الْأُخْرَى، وَلَيْسَ مِنْهُمْ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى إِلَّا وَقَدْ عَرَفَ أَجَلَهُ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ، وَمُنْقَطَعَ عُمْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ مَيِّتٌ مِنْ ذُكُورِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ صُلْبِهِ أَلْفُ وَلَدٍ، وَلَا تَمُوتُ الْأُنْثَى حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ رَحِمِهَا أَلْفُ وَلَدٍ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ، وَهُمْ يُرْزَقُونَ التِّنِّينَ أَيَّامَ الرَّبِيعِ، وَيَسْتَمْطِرُونَهُ إِذَا تَحَّيَنُوهُ كَمَا نَسْتَمْطِرُ الْغَيْثَ لِحِينِهِ، فَيَقْذِفُونَ مِنْهُ كُلَّ سَنَةٍ بِوَاحِدٍ، فَيَأْكُلُونَهُ عَامَهُمْ كُلَّهُ إِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ، فَيُغْنِيهِمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَنَمَائِهِمْ، فَإِذَا أُمْطِرُوا وَأَخْصَبُوا وَعَاشُوا وَسَمِنُوا، وَرُئِيَ أَثَرُهُ عَلَيْهِمْ، فَدَرَّتْ عَلَيْهِمُ الْإِنَاثُ، وَشَبِقَتْ مِنْهُمُ الرِّجَالُ الذُّكُورُ، -[396]- وَإِذَا أَخْطَأَهُمْ هَزُلُوا وَأَجْدَبُوا، وَجَفَرَتِ الذُّكُورُ، وَحَالَتِ الْإِنَاثُ، وَتَبَيَّنَ أَثَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ يَتَدَاعَوْنَ تَدَاعِي الْحَمَامِ، وَيَعْوُونَ عُوَاءَ الْكِلَابِ، وَيَتَسَافَدُونَ حَيْثُ الْتَقَوْا تَسَافُدَ الْبَهَائِمِ. فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ذُو الْقَرْنَيْنِ انْصَرَفَ إِلَى مَا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، فَقَاسَ مَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ فِي مُنْقَطَعِ أَرْضِ التُّرْكِ مَا يَلِي مُشْرِقَ الشَّمْسِ، فَوَجَدَ بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا مِائَةُ فَرْسَخٍ، فَلَمَّا أَنْشَأَ فِي عَمَلِهِ، حَفَرَ لَهُ أَسَاسًا حَتَّى بَلَغَ الْمَاءَ، ثُمَّ جَعَلَ عَرَضَهُ خَمْسِينَ فَرْسَخًا، وَجَعَلَ حَشْوَهُ الصُّخُورَ، وَطِينَهُ النَّحَّاسَ، يُذَابُ ثُمَّ يُصُبُّ عَلَيْهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ عِرْقٌ مِنْ جَبَلٍ تَحْتَ الْأَرْضِ، ثُمَّ عَلَاهُ وَشَرَفَهُ بِزُبُرِ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ الْمُذَابِ، وَجَعَلَ خِلَالَهُ عِرْقًا مِنْ نُحَاسِ أَصْفَرَ، فَصَارَ كَأَنَّهُ بُرْدٌ مُحَبَّرٌ مِنْ صُفْرَةِ النُّحَاسِ وَحُمْرَتِهِ وَسَوَادِ الْحَدِيدِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ وَأَحْكَمَهُ، انْطَلَقَ عَامِدًا إِلَى جَمَاعَةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ، دَفَعَ إِلَى أُمَّةٍ صَالِحَةٍ يُهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، فَوَجَدَ أُمَّةً مُقْسِطَةً مُقْتَصِدَةً، يَقْسِمُونَ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَحْكُمُونَ بِالْعَدْلِ، وَيَتَآسَوْنَ وَيَتَرَاحَمُونَ، حَالُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَأَخْلَاقُهُمْ مُشْتَبِهَةٌ، وَطَرِيقَتُهُمْ مُسْتَقِيمَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ مُتَأَلِّفَةٌ، وَسِيرَتُهُمْ حَسَنَةٌ، وَقُبُورُهُمْ بِأَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَى بُيُوتِهِمْ أَبْوَابٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أُمَرَاءُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ قُضَاةٌ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَلَا مُلُوكٌ، وَلَا أَشْرَافٌ، وَلَا يَتَفَاوَتُونَ، وَلَا يَتَفَاضَلُونَ، وَلَا يَخْتَلِفُونَ، وَلَا يَتَنَازَعُونَ، وَلَا يَسْتَّبُونَ، وَلَا يَقْتَتِلُونَ، وَلَا يَقْحَطُونَ، وَلَا يَحْرِدُونَ، وَلَا تُصِيبُهُمُ الْآفَاتُ -[397]- الَّتِي تُصِيبُ النَّاسَ، وَهُمْ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْمَارًا، وَلَيْسَ فِيهِمْ مِسْكِينٌ، وَلَا فَقِيرٌ، وَلَا فَظٌّ، وَلَا غَلِيظٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ أَمْرِهِمْ، عَجِبَ مِنْهُ وَقَالَ: أَخْبِرُونِي أَيُّهَا الْقَوْمُ خَبَرَكُمْ، فَإِنِّي قَدْ أَحْصَيْتُ الْأَرْضَ كُلَّهَا بَرَّهَا وَبَحْرَهَا، وَشَرْقَهَا وَغَرْبَهَا، وَنُورَهَا وَظُلْمَتَهَا، فَلَمْ أَجِدْ مِثْلَكُمْ، فَأَخْبِرُونِي خَبَرَكُمْ، قَالُوا: نَعَمْ، فَسَلْنَا عَمَّا تُرِيدُ، قَالَ: أَخْبِرُونِي، مَا بَالُ قُبُورِ مَوْتَاكُمْ عَلَى أَبْوَابِ بُيُوتِكُمْ؟ قَالُوا: عَمْدًا فَعَلْنَا ذَلِكَ لِئَلَّا نَنْسَى الْمَوْتَ، وَلَا يَخْرُجُ ذِكْرُهُ مِنْ قُلُوبِنَا، قَالَ: فَمَا بَالُ بُيُوتِكُمْ لَيْسَ عَلَيْهَا أَبْوَابٌ؟ قَالُوا: لَيْسَ فِينَا مُتَّهَمٌ، وَلَيْسَ مِنَّا إِلَّا أَمِينٌ مُؤْتَمَنٌ، قَالَ: فَمَا لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ؟ قَالُوا: لَا نَتَظَالَمُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ حَكَّامٌ؟ قَالُوا: لَا نَخْتَصِمُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ أَغْنِيَاءُ؟ قَالُوا: لَا نَتَكَاثَرُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ مُلُوكٌ؟ قَالُوا: لَا نَتَكَابَرُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَتَنَازَعُونَ وَلَا تَخْتَلِفُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أُلْفَةِ قُلُوبِنَا وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِنَا، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَسْتَبُّونَ وَلَا تَقْتَتِلُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا غَلَبْنَا طَبَائِعَنَا بِالْعَزْمِ، وَسُسْنَا أَنْفُسَنَا بِالْأَحْلَامِ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ كَلِمَتُكُمْ وَاحِدَةٌ، وَطَرِيقَتُكُمْ مُسْتَقِيمَةٌ مُسْتَوِيَةٌ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا لَا نَتَكَاذَبُ، وَلَا نَتَخَادَعُ، وَلَا يَغْتَابُ بَعْضُنَا بَعْضًا، قَالَ: فَأَخْبِرُونِي مِنْ أَيْنَ تَشَابَهَتْ قُلُوبُكُمْ، وَاعْتَدَلَتْ سِيرَتُكُمْ؟ قَالُوا: صَحَّتْ صُدُورُنَا، فَنُزِعَ بِذَلِكَ الْغِلُّ وَالْحَسَدُ مِنْ قُلُوبِنَا، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ مِسْكِينٌ وَلَا فَقِيرٌ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا نَقْتَسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ الذُّلِّ وَالتَّوَاضُعِ، قَالَ: فَمَا جَعَلَكُمْ أَطْوَلَ النَّاسِ أَعْمَارًا؟ قَالُوا: مِنْ -[398]- قِبَلِ أَنَّا نَتَعَاطَى الْحَقَّ وَنَحْكُمُ بِالْعَدْلِ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تُقْحَطُونَ؟ قَالُوا: لَا نَغْفُلُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَحْرِدُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا وَطَّأْنَا أَنْفُسَنَا لِلْبَلَاءِ مُنْذُ كُنَّا، وَأَحْبَبْنَاهُ وَحَرَصْنَا عَلَيْهِ، فَعَرِينَا مِنْهُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تُصِيبُكُمُ الْآفَاتُ كَمَا تُصِيبُ النَّاسَ؟ قَالُوا: لَا نَتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَلَا نَعْمَلُ بِالْأَنْوَاءِ وَالنُّجُومِ، قَالَ: حَدِّثُونِي أَهَكَذَا وَجَدْتُمْ آبَاءَكُمْ يَفْعَلُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا يَرْحَمُونَ مَسَاكِينَهُمْ، وَيُواسُونَ فُقَرَاءَهُمْ، وَيَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ، وَيَحْلُمُونَ عَمَّنْ جَهِلَ عَلَيْهِمْ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ سَبَّهُمْ، وَيَصِلُّونَ أَرْحَامَهُمْ، وَيُؤَدُّونَ أَمَانَاتِهُمْ، وَيَحْفَظُونَ وَقْتَهُمْ لِصَلَاتِهِمْ، وَيُوَفُّونَ بِعُهُودِهِمْ، وَيَصْدُقُونَ فِي مَوَاعِيدِهِمْ، وَلَا يَرْغَبُونَ عَنْ أَكْفَائِهِمْ، وَلَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ أَقَارِبِهِمْ، فَأَصْلَحَ اللَّهُ لَهُمْ بِذَلِكَ أَمْرَهُمْ، وَحَفِظَهُمْ مَا كَانُوا أَحْيَاءً، وَكَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَحْفَظَهُمْ فِي تَرِكَتِهِمْ