حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فِيمَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، قَالَ: ثُمَّ مَلَكَ أَهْلَ تِلْكَ الْبِلَادِ رَجُلٌ صَالِحٌ يُقَالُ لَهُ تيذوسيس، فَلَمَّا مَلَكَ بَقِيَ مُلْكُهُ ثَمَانِيًا وَسِتِّينَ سَنَةً، فَتَحَزَّبَ النَّاسُ فِي مُلْكِهِ، فَكَانُوا أَحْزَابًا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ السَّاعَةَ حَقٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ تيذوسيس، وَبَكَى إِلَى اللَّهِ وَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ، وَحَزِنَ حُزْنًا شَدِيدًا لَمَّا رَأَى أَهْلَ الْبَاطِلِ يَزِيدُونَ وَيَظْهَرُونَ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ وَيَقُولُونَ: لَا حَيَاةَ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا تُبْعَثُ النُّفُوسُ، وَلَا تُبْعَثُ الْأَجْسَادُ، وَنَسُوا مَا فِي الْكِتَابِ، فَجَعَلَ تيذوسيس يُرْسِلُ إِلَى مَنْ يَظُنُّ فِيهِ خَيْرًا، وَأَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ فِي الْحَقِّ، فَجَعَلُوا يُكَذِّبُونَ بِالسَّاعَةِ، حَتَّى كَادُوا أَنْ يُحَوِّلُوا النَّاسَ عَنِ الْحَقِّ وَمِلَّةِ الْحَوَارِيِّينَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمَلِكُ -[200]- الصَّالِحُ تيذوسيس، دَخَلَ بَيْتَهُ فَأَغْلَقَهُ عَلَيْهِ، وَلَبِسَ مَسْحًا وَجَعَلَ تَحْتَهُ رَمَادًا، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، فَدَأَبَ ذَلِكَ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ زَمَانًا يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ، وَيَبْكِي إِلَيْهِ مِمَّا يَرَى فِيهِ النَّاسُ، ثُمَّ إِنَّ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ الَّذِي يَكْرَهُ هَلَكَةَ الْعِبَادِ، أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ عَلَى الْفِتْيَةِ أَصْحَابَ الْكَهْفِ، وَيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ شَأْنَهُمْ، وَيَجْعَلَهُمْ آيَةً لَهُمْ، وَحُجَّةً عَلَيْهِمْ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنْ يَسْتَجِيبَ لِعَبْدِهِ الصَّالِحِ تيذوسيس، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَنْزِعُ مِنْهُ مُلْكَهُ، وَلَا الْإِيمَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ، وَأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ يَجْمَعَ مَنْ كَانَ تَبَدَّدَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَلْقَى اللَّهُ فِي نَفْسِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي بِهِ الْكَهْفُ، وَكَانَ الْجَبَلُ بنجلوس الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ لِذَاكَ الرَّجُلِ، وَكَانَ اسْمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ أوليَاس، أَنْ يَهْدِمَ الْبُنْيَانَ الَّذِي عَلَى فَمِ الْكَهْفِ، فَيَبْنِي بِهِ حَظِيرَةً لِغَنَمِهِ، فَاسْتَأْجَرَ عَامِلَيْنِ، فَجَعَلَا يَنْزِعَانِ تِلْكَ الْحِجَارَةَ، وَيَبْنِيَانِ بِهَا تِلْكَ الْحَظِيرَةَ، حَتَّى نَزَعَا مَا عَلَى فَمِ الْكَهْفِ، حَتَّى فَتَحَا عَنْهُمْ بَابَ الْكَهْفِ، وَحَجَبَهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّاسِ بِالرُّعْبِ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَشْجَعَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِمْ غَايَةً مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ بَابِ الْكَهْفِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يَرَى كَلْبَهُمْ دُونَهُمْ إِلَى بَابِ الْكَهْفِ نَائِمًا، فَلَمَّا نَزَعَا الْحِجَارَةَ، وَفَتَحَا عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ، أَذِنَ اللَّهُ ذُو الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ وَالسُّلْطَانِ مُحْيِي الْمَوْتَى لِلْفِتْيَةِ أَنْ يَجْلِسُوا بَيْنَ ظَهْرَيِ الْكَهْفِ، فَجَلَسُوا فَرِحِينَ مُسْفِرَةً وُجُوهَهُمْ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ، فَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، حَتَّى كَأَنَّمَا اسْتَيْقَظُوا مِنْ سَاعَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَسْتَيْقِظُونَ لَهَا إِذَا أَصْبَحُوا مِنْ لَيْلَتِهِمُ الَّتِي يَبِيتُونَ فِيهَا ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّوْا كَالَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَ، لَا يَرَوْنَ وَلَا يُرَى فِي وُجُوهِهِمْ، وَلَا أَبْشَارِهِمْ، وَلَا أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ يُنْكِرُونَهُ كَهَيْئَتِهِمْ حِينَ رَقَدُوا بِعَشِيِّ أَمْسِ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَلِكَهُمْ -[201]- دقينوس الْجَبَّارُ فِي طَلَبِهِمْ وَالْتِمَاسِهِمْ. فَلَمَّا قَضَوْا صَلَاتَهُمْ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، قَالُوا ليمليخا، وَكَانَ هُوَ صَاحِبُ نَفَقَتِهِمُ الَّذِي كَانَ يَبْتَاعُ لَهُمْ طَعَامَهُمْ وَشَرَابَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَجَاءَهُمْ بِالْخَبَرِ أَنَّ دقينوسَ يَلْتَمِسَنَّهُمْ، وَيَسْأَلُ عَنْهُمْ: أَنْبِئْنَا يَا أَخِي مَا الَّذِي قَالَ النَّاسُ فِي شَأْنِنَا عَشِيَّ أَمْسِ عِنْدَ هَذَا الْجَبَّارِ؟ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ رَقَدُوا كَبَعْضِ مَا كَانُوا يَرْقُدُونَ، وَقَدْ خُيِّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ نَامُوا كَأَطْوَلِ مَا كَانُوا يَنَامُونَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أَصْبَحُوا فِيهَا، حَتَّى تَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: {كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19] نِيَامًا؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19] وَكُلُّ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ يَسِيرٌ. فَقَالَ لَهُمْ يمليخا: افْتُقِدْتُمْ وَالْتُمِسْتُمْ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُؤْتَى بِكُمُ الْيَوْمَ، فَتَذْبَحُونَ لِلطَّوَاغِيتِ أَوْ يَقْتُلَكُمْ، فَمَا شَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُمْ مَكْسِلمينا: يَا إِخْوَتَاهِ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُونَ، فَلَا تَكْفُرُوا بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِذَا دَعَاكُمْ عَدُوُّ اللَّهِ، وَلَا تُنْكِرُوا الْحَيَاةَ الَّتِي لَا تَبِيدُ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ بِاللَّهِ، وَالْحَيَاةَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ، ثُمَّ قَالُوا ليمليخا: انْطَلِقْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَتَسْمَعُ مَا يُقَالُ لَنَا بِهَا الْيَوْمَ، وَمَا الَّذِي نُذَكُرُ بِهِ عِنْدَ دقينوس، وَتَلَطَّفْ وَلَا يَشْعُرَنَّ بِنَا أَحَدٌ، وَابْتَعْ لَنَا طَعَامًا فَأْتِنَا بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ آنَ لَكَ، وَزِدْنَا عَلَى الطَّعَامِ الَّذِي قَدْ جِئْتَنَا بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ قَلِيلًا، فَقَدْ أَصْبَحْنَا جِيَاعًا، فَفَعَلَ يمليخا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ، وَوَضَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ الثِّيَابَ الَّتِي كَانَ يَتَنَكَّرُ فِيهَا، وَأَخَذَ وَرِقًا مِنْ نَفَقَتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُمْ، الَّتِي ضُرِبَتْ بِطَابَعِ دقينوس الْمَلِكِ، فَانْطَلَقَ يمليخا خَارِجًا، فَلَمَّا مَرَّ بِبَابِ -[202]- الْكَهْفِ، رَأَى الْحِجَارَةَ مَنْزُوعَةً عَنْ بَابِ الْكَهْفِ، فَعَجِبَ مِنْهَا، ثُمَّ مَرَّ فَلَمْ يُبَالِ بِهَا، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ مُسْتَخْفِيًا يَصُدُّ عَنِ الطَّرِيقِ تَخَوُّفًا أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا، فَيَعْرِفُهُ، فَيَذْهَبُ بِهِ إِلَى دقينوس، وَلَا يَشْعُرُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَنَّ دقينوسَ وَأَهْلَ زَمَانِهِ قَدْ هَلَكُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ مِائَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ مَا بَيْنَ أَنْ نَامُوا إِلَى أَنِ اسْتَيْقَظُوا ثَلَاثَ مِائَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ. فَلَمَّا رَأَى يمليخا بَابَ الْمَدِينَةِ رَفَعَ بَصَرَهُ، فَرَأَى فَوْقَ ظَهْرِ الْبَابِ عَلَامَةً تَكُونُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، إِذَا كَانَ ظَاهِرًا فِيهَا، فَلَمَّا رَآهَا عَجِبَ وَجَعَلَ يَنْظُرُ مُسْتَخْفِيًا إِلَيْهَا، فَنَظَرَ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَتَعَجَّبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ الْبَابَ، فَتَحَوَّلَ إِلَى بَابٍ آخَرَ مِنْ أَبْوَابِهَا، فَنَظَرَ فَرَأَى مِنْ ذَلِكَ مَا يُحِيطُ بِالْمَدِينَةِ كُلِّهَا، وَرَأَى عَلَى كُلِّ بَابٍ مِثْلَ ذَلِكَ، فَجَعَلَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّ الْمَدِينَةَ لَيْسَ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي كَانَ يَعْرِفُ، وَرَأَى نَاسًا كَثِيرِينَ مُحْدَثِينَ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَجَعَلَ يَمْشِي وَيَعْجَبُ وَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ حَيْرَانُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَابِ الَّذِي أَتَى مِنْهُ، فَجَعَلَ يَعْجَبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَيَقُولُ: يَا لَيْتَ شِعْرِي، أَمَا هَذِهِ عَشِيَّةُ أَمْسِ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخْفُونَ هَذِهِ الْعَلَامَةَ وَيَسْتَخْفُونَ بِهَا، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّهَا ظَاهِرَةُ لِعَلِّي حَالِمٌ؟ ثُمَّ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَائِمٍ، فَأَخَذَ كِسَاءَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَمْشِي بَيْنَ ظَهْرَيْ سُوقِهَا، فَيَسْمَعُ أُنَاسًا كَثِيرًا يَحْلِفُونَ بِاسْمِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَزَادَهُ فَرَقًا، وَرَأَى أَنَّهُ حَيْرَانُ، فَقَامَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى جِدَارٍ مِنْ جُدُرِ الْمَدِينَةِ وَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هَذَا أَمَّا عَشِيَّةُ أَمْسِ فَلَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ إِنْسَانٌ يَذْكُرُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِلَّا قُتِلَ، وَأَمَّا الْغَدَاةَ فَأَسْمَعُهُمْ، وَكُلُّ إِنْسَانٍ يَذْكُرُ أَمْرَ عِيسَى لَا يَخَافُ ثُمَّ قَالَ فِي -[203]- نَفْسِهِ: لَعَلَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي أَعْرِفُ أَسْمَعُ كَلَامَ أَهْلِهَا وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ مَدِينَةً قُرْبَ مَدِينَتِنَا فَقَامَ كَالْحَيْرَانِ لَا يَتَوَجَّهُ وَجْهًا، ثُمَّ لَقِيَ فَتًى مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ يَا فَتًى؟ قَالَ: اسْمُهَا أفسوس، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَعَلَّ بِي مَسًّا، أَوْ بِي أَمْرٌ أَذْهَبَ عَقْلِي؟ وَاللَّهِ يَحِقُّ لِي أَنْ أُسْرِعَ الْخُرُوجَ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ أَخْزَى فِيهَا أَوْ يُصِيبَنِي شَرٌّ فَأَهْلِكَ. هَذَا الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ يمليخا أَصْحَابَهُ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُمْ مَا بِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ أَفَاقَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ عَجَّلْتُ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يُفْطَنَ بِي لَكَانَ أَكْيَسَ لِي، فَدَنَا مِنَ الَّذِينَ يَبِيعُونَ الطَّعَامَ، فَأَخْرَجَ الْوَرِقَ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ، فَأَعْطَاهَا رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقَالَ: بِعْنِي بِهَذِهِ الْوَرِقِ يَا عَبْدَ اللَّهِ طَعَامًا. فَأَخَذَهَا الرَّجُلُ، فَنَظَرَ إِلَى ضَرْبِ الْوَرِقِ وَنَقْشِهَا، فَعَجِبَ مِنْهَا، ثُمَّ طَرَحَهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَطَارَحُونَهَا بَيْنَهُمْ مِنْ رَجُلٍ إِلَى رَجُلٍ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَشَاوَرُونَ بَيْنَهُمْ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَصَابَ كَنْزًا خَبِيئًا فِي الْأَرْضِ مُنْذُ زَمَانٍ وَدَهْرٍ طَوِيلٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ يَتَشَاوَرُونَ مِنْ أَجَلِهِ فَرَقَ فَرَقًا شَدِيدًا، وَجَعَلَ يَرْتَعِدُ وَيَظُنُّ أَنَّهُمْ قَدْ فَطِنُوا بِهِ وَعَرَفُوهُ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ دقينوس يُسْلِمُونَهُ إِلَيْهِ. وَجَعَلَ أُنَاسٌ آخَرُونَ يَأْتُونَهُ فَيَتَعَرَّفُونَهُ، فَقَالَ لَهُمْ وَهُوَ شَدِيدُ الْفَرَقِ مِنْهُمْ: أَفْضِلُوا عَلَيَّ، فَقَدْ أَخَذْتُمْ وَرِقِي فَأَمْسِكُوا، وَأَمَّا طَعَامُكُمْ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهِ. قَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ يَا فَتًى، وَمَا شَأْنُكَ؟ وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتَ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ الْأَوَّلِينَ، فَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُخْفِيَهُ مِنَّا، فَانْطَلِقْ مَعَنَا فَأَرِنَاهُ وَشَارِكْنَا فِيهِ، نُخْفِ عَلَيْكَ مَا وَجَدْتَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَفْعَلْ نَأْتِ بِكَ السُّلْطَانَ، -[204]- فَنُسْلِمُكَ إِلَيْهِ فَيَقْتُلُكَ. فَلَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُمْ، عَجِبَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: قَدْ وَقَعْتُ فِي كُلِّ شَيْءٍ كُنْتُ أحْذَرُ مِنْهُ ثُمَّ قَالُوا: يَا فَتًى إِنَّكَ وَاللَّهِ مَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَكْتُمَ مَا وَجَدْتَ، وَلَا تَظُنُّ فِي نَفْسِكَ أَنَّهُ سَيَخْفَى حَالُكَ. فَجَعَلَ يمليخا لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ لَهُمْ وَمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، وَفَرَقَ حَتَّى مَا يَحِيرُ إِلَيْهِمْ جَوَابًا، فَلَمَّا رَأَوْهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَخَذُوا كِسَاءَهُ فَطَوَّقُوهُ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ جَعَلُوا يَقُودُونَهُ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ مُلَبَّبًا، حَتَّى سَمِعَ بِهَ مَنْ فِيهَا، فَقِيلَ: أُخِذَ رَجُلٌ عِنْدَهُ كَنْزٌ. وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، فَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا الْفَتَى مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ، وَمَا رَأَيْنَاهُ فِيهَا قَطُّ، وَمَا نَعْرِفُهُ، فَجَعَلَ يمليخا لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ لَهُمْ، مَعَ مَا يَسْمَعُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَرَقَ فَسَكَتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ، وَلَوْ أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يُصَدَّقْ. وَكَانَ مُسْتَيْقِنًا أَنَّ أَبَاهُ وَإِخْوَتَهُ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّ حَسَبَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِهَا، وَأَنَّهُمْ سَيَأْتُونَهُ إِذَا سَمِعُوا، وَقَدِ اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ مِنْ عَشِيَّةِ أَمْسِ يَعْرِفُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْيَوْمَ مِنْ أَهْلِهَا أَحَدًا. فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ كَالْحَيْرَانَ يَنْتَظِرُ مَتَى يَأْتِهِ بَعْضُ أَهْلِهِ، أَبُوهُ أَوْ بَعْضُ إِخْوَتِهِ فَيُخَلِّصُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، إِذِ اخْتَطَفُوهُ فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى رِئَيسَيِ الْمَدِينَةِ وَمُدَبِّرَيْهَا اللَّذَيْنِ يُدَبِّرَانِ أَمْرَهَا، وَهُمَا رَجُلَانِ صَالِحَانِ، كَانَ اسْمُ أَحَدِهِمَا أريوس، وَاسْمُ الْآخَرِ أسطيوس، فَلَمَّا انْطُلِقَ بِهِ -[205]- إِلَيْهِمَا، ظَنَّ يمليخا أَنَّهُ يُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى دقينوس الْجَبَّارِ مَلِكِهِمُ الَّذِي هَرَبُوا مِنْهُ، فَجَعَلَ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَجَعَلَ النَّاسُ يَسْخَرُونَ مِنْهُ، كَمَا يُسْخَرُ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالْحَيْرَانِ، فَجَعَلَ يمليخا يَبْكِي. ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَإِلَى اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِلَهَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَوْلِجْ مَعِي رُوحًا مِنْكَ الْيَوْمَ تُؤَيِّدُنِي بِهِ عِنْدَ هَذَا الْجَبَّارِ. وَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: فُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي يَا لَيْتَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا لَقِيتُ، وَأَنَّى يُذْهَبُ بِي إِلَى دقينوس الْجَبَّارِ، فَلَوْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ فَيَأْتُونَ، فَنَقُومُ جَمِيعًا بَيْنَ يَدَيْ دقينوس، فَإِنَّا كُنَّا تَوَاثَقْنَا لَنَكُونَنَّ مَعًا، لَا نَكْفُرُ بِاللَّهِ وَلَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَلَا نَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ مِنْ دُونَ اللَّهِ، فُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَلَنْ يَرَوْنِي وَلَنْ أَرَاهُمْ أَبَدًا، وَقَدْ كُنَّا تَوَاثَقْنَا أَنْ لَا نَفْتَرِقَ فِي حَيَاةٍ وَلَا مَوْتٍ أَبَدًا. يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ بِي؟ أَقَاتِلِي هُوَ أَمْ لَا؟ ذَلِكَ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ يمليخا نَفْسَهُ فِيمَا أَخْبَرَ أَصْحَابَهُ حِينَ رَجَعَ إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الرَّجُلَيْنِ الصَّالِحَيْنِ أريوس وَأسطيوس، فَلَمَّا رَأَى يمليخا أَنَّهُ لَمْ يُذْهَبْ بِهِ إِلَى دقينوس، أَفَاقَ وَسَكَنَ عَنْهُ الْبُكَاءُ، فَأَخَذَ أريوس وَأسطيوس الْوَرِقَ فَنَظَرَا إِلَيْهَا وَعَجِبَا مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَيْنَ الْكَنْزُ الَّذِي وَجَدْتَ يَا فَتًى؟ هَذَا الْوَرِقُ يَشْهَدُ عَلَيْكَ أَنَّكَ قَدْ وَجَدْتَ كَنْزًا فَقَالَ لَهُمَا يمليخا: مَا وَجَدْتُ كَنْزًا وَلَكِنْ هَذِهِ الْوَرِقُ وَرِقُ آبَائِي، وَنَقْشُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ وَضَرْبُهَا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا شَأْنِي، وَمَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكُمْ فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ لَهُ يمليخا: مَا أَدْرِي، فَكُنْتُ أَرَى أَنِّي مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالُوا: فَمَنْ أَبُوكَ وَمَنْ يَعْرِفُكَ بِهَا؟ -[206]- فَأَنْبَأَهُمْ بِاسْمِ أَبِيهِ، فَلَمْ يَجِدُوا أَحَدًا يَعْرِفُهُ وَلَا أَبَاهُ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: أَنْتَ رَجُلٌ كَذَّابٌ لَا تُنْبِئُنَا بِالْحَقِّ، فَلَمْ يَدْرِ يمليخا مَا يَقُولُ لَهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ نَكَّسَ بَصَرَهُ إِلَى الْأَرْضِ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حَوْلَهُ: هَذَا رَجُلٌ مَجْنُونٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، وَلَكِنَّهُ يُحَمِّقُ نَفْسَهُ عَمْدًا لِكَيْ يَنْفَلِتَ مِنْكُمْ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا، وَنَظَرَ إِلَيْهِ نَظَرًا شَدِيدًا: أَتَظُنُّ أَنَّكَ إِذْ تَتَجَانَنُ نُرْسِلُكَ وَنُصَدِّقُكَ بِأَنَّ هَذَا مَالُ أَبِيكَ، وَضَرْبُ هَذِهِ الْوَرِقِ وَنَقْشُهَا مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مِائَةِ سَنَةٍ؟ وَإِنَّمَا أَنْتَ غُلَامٌ شَابٌّ تَظُنُّ أَنَّكَ تَأْفِكُنَا، وَنَحْنُ شُمْطٌ كَمَا تَرَى، وَحَوْلَكَ سُرَاةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَولَاةُ أَمْرِهَا، إِنِّي لَأَظُنُّنِي سَآمُرُ بِكَ فَتُعَذَّبُ عَذَابًا شَدِيدًا، ثُمَّ أُوثِقُكَ حَتَّى تَعْتَرِفَ بِهَذَا الْكَنْزِ الَّذِي وَجَدْتَ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ، قَالَ يمليخا: أَنْبِئُونِي عَنْ شَيْءٍ أَسْأَلُكُمْ عَنْهُ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ صَدَقْتُكُمْ عَمَّا عِنْدِي، أَرَأَيْتُمْ دقينوس الْمَلِكَ الَّذِي كَانَ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ عَشِيَّةَ أَمْسِ مَا فَعَلَ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ رَجُلٌ اسْمُهُ دقينوس، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا مَلِكٌ قَدْ هَلَكَ مُنْذُ زَمَانٍ وَدَهْرٍ طَوِيلٍ، وَهَلَكَتْ بَعْدَهُ قُرُونٌ كَثِيرَةٌ فَقَالَ لَهُ يمليخا: فَوَاللَّهِ إِنِّي إِذًا لَحَيْرَانُ، وَمَا هُوَ بِمُصَدِّقٌ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِمَا أَقُولُ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ، لَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الْجَبَّارِ دقينوس، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُهُ عَشِيَّةَ أَمْسِ حِينَ دَخَلَ مَدِينَةَ أفسوس، وَلَكِنْ لَا أَدْرِي أَمَدِينَةُ أفسوس هَذِهِ أَمْ لَا؟ فَانْطَلِقَا مَعِي إِلَى الْكَهْفِ الَّذِي فِي جَبَلِ بنجلوس أُرِيكُمْ أَصْحَابِي. فَلَمَّا سَمِعَ أريوسَ مَا يَقُولُ يمليخا قَالَ: يَا قَوْمُ لَعَلَّ هَذِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ جَعَلَهَا لَكُمْ عَلَى يَدَيْ هَذَا الْفَتَى، فَانْطَلِقُوا بِنَا مَعَهُ يُرِنَا أَصْحَابَهُ، كَمَا -[207]- قَالَ. فَانْطَلَقَ مَعَهُ أريوس وَأسطيوس، وَانْطَلَقَ مَعَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ كَبِيرُهُمْ وَصَغِيرُهُمْ، نَحْوَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِمْ. وَلَمَّا رَأَى الْفِتْيَةُ أَصْحَابُ الْكَهْفِ يمليخا قَدِ احْتُبِسَ عَلَيْهِمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ عَنِ الْقَدْرِ الَّذِي كَانَ يَأْتِي بِهِ، ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ أُخِذَ فَذُهِبَ بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ دقينوس الَّذِي هَرَبُوا مِنْهُ. فَبَيْنَمَا هُمْ يَظُنُّونَ ذَلِكَ وَيَتَخَوَّفُونَهُ، إِذْ سَمِعُوا الْأَصْوَاتَ وَجَلَبَةَ الْخَيْلِ مُصْعِدَةً نَحْوَهُمْ، فَظُنُّوا أَنَّهُمْ رُسُلُ الْجَبَّارِ دقينوس بَعَثَ إِلَيْهِمْ لِيُؤْتَى بِهِمْ، فَقَامُوا حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا نَأْتِ أَخَانَا يمليخا، فَإِنَّهُ الْآنَ بَيْنَ يَدَيِ الْجَبَّارِ دقينوس يَنْتَظِرُ مَتَى نَأْتِهِ. فَبَيْنَمَا هُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَهُمْ جُلُوسٌ بَيْنَ ظَهْرَيِ الْكَهْفِ، فَلَمْ يَرَوْا إِلَّا أريوس وَأَصْحَابَهُ وُقُوفًا عَلَى بَابِ الْكَهْفِ. وَسَبَقَهُمْ يمليخا، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَبْكِي. فَلَمَّا رَأَوْهُ يَبْكِي بَكَوْا مَعَهُ، ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنْ شَأْنِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِمُ النَّبَأَ كُلَّهُ، فَعَرَفُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا نِيَامًا بِأَمْرِ اللَّهِ ذَلِكَ الزَّمَانَ كُلَّهُ، وَإِنَّمَا أُوقِظُوا لِيَكُونُوا آيَةً لِلنَّاسٍ، وَتَصْدِيقًا لِلْبَعْثِ، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا. ثُمَّ دَخَلَ عَلَى أَثَرِ يمليخا أريوس، فَرَأَى تَابُوتًا مِنْ نُحَاسِ مَخْتُومًا بِخَاتَمٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَقَامَ بِبَابِ الْكَهْفِ، ثُمَّ دَعَا رِجَالًا مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَفَتَحَ التَّابُوتَ عِنْدَهُمْ، فَوَجَدُوا فِيهِ لَوْحَيْنِ مِنْ رَصَاصٍ، مَكْتُوبًا فِيهِمَا كِتَابٌ، فَقَرَأَهُمَا فَوَجَدَ فِيهِمَا: أَنَّ مكسلمينا، وَمحسلمينا، وَيمليخا، وَمرطونس، وَكسطونس، وَيبورس، وَيكرنوس، -[208]- وَيطبيونس، وَقالوش، كَانُوا فِتْيَةً هَرَبُوا مِنْ مَلِكِهِمْ دقينوس الْجَبَّارِ، مَخَافَةَ أَنْ يَفْتِنَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَدَخَلُوا هَذَا الْكَهْفَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِمَكَانِهِمْ أَمَرَ بِالْكَهْفِ فَسُدَّ عَلَيْهِمْ بِالْحِجَارَةِ، وَإِنَّا كَتَبْنَا شَأْنَهُمْ وَقِصَّةَ خَبَرِهِمْ، لِيَعْلَمَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ إِنْ عَثَرَعَلَيْهِمْ. فَلَمَّا قَرَءُوهُ، عَجِبُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ الَّذِي أَرَاهُمْ آيَةً لِلْبَعْثِ فِيهِمْ، ثُمَّ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ. ثُمَّ دَخَلُوا عَلَى الْفِتْيَةِ الْكَهْفَ، فَوَجَدُوهُمْ جُلُوسًا بَيْنَ ظَهْرَيْهِ، مُشْرِقَةً وُجُوهُهُمْ، لَمْ تَبْلَ ثِيَابُهُمْ. فَخَرَّ أريوس وَأَصْحَابُهُ سُجُودًا، وَحَمِدُوا اللَّهَ الَّذِي أَرَاهُمْ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ. ثُمَّ كَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَنْبَأَهُمُ الْفِتْيَةُ عَنِ الَّذِينَ لَقُوا مِنْ مَلِكِهِمْ دقينوس ذَلِكَ الْجَبَّارُ الَّذِي كَانُوا هَرَبُوا مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ أريوس وَأَصْحَابَهُ بَعَثُوا بَرِيدًا إِلَى مَلِكِهِمُ الصَّالِحِ تيذوسيس، أَنْ عَجِّلْ لَعَلَّكَ تَنْظُرُ إِلَى آيَةٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُلْكِكَ، وَجَعَلَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ، لِتَكُونَ لَهُمْ نُورًا وَضِيَاءً، وَتَصْدِيقًا بِالْبَعْثِ، فَاعْجَلْ عَلَى فِتْيَةٍ بَعَثَهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ تَوَفَّاهُمْ مُنْذُ أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثِ مِائَةِ سَنَةٍ. فَلَمَّا أَتَى الْمَلِكَ تيذوسيس الْخَبَرُ، قَامَ مِنَ الْمَسْنَدَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَرَجَعَ إِلَيْهِ رَأْيُهُ وَعَقْلُهُ، وَذَهَبَ عَنْهُ هَمُّهُ، وَرَجَعَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: أَحْمَدُكَ اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَعْبُدُكَ، وَأَحْمَدُكَ، وَأُسَبِّحُ لَكَ، تَطَوَّلْتَ عَلَيَّ، وَرَحِمْتَنِي بِرَحْمَتِكَ، فَلَمْ تُطْفِئِ النُّورَ الَّذِي كُنْتَ جَعَلْتَهُ لِآبَائِي، وَلِلْعَبْدِ الصَّالِحِ قسطيطينوس -[209]- الْمَلِكِ، فَلَمَّا نَبَّأَ بِهِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ رَكِبُوا إِلَيْهِ، وَسَارُوا مَعَهُ حَتَّى أَتَوْا مَدِينَةَ أفسوس، فَتَلَقَّاهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَسَارُوا مَعَهُ حَتَّى صَعِدُوا نَحْوَ الْكَهْفِ حَتَّى أَتَوْهُ، فَلَمَّا رَأَى الْفِتْيَةَ تيذوسيس، فَرِحُوا بِهِ، وَخَرُّوا سُجُودًا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَقَامَ تيذوسيس قُدَّامَهُمْ، ثُمَّ اعْتَنَقَهُمْ وَبَكَى، وَهُمْ جُلُوسٌ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَيَحْمَدُونَهُ، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أُشْبِهَ بِكُمْ إِلَّا الْحَوَارِيُّونَ حِينَ رَأَوُا الْمَسِيحَ. وَقَالَ: فَرَّجَ اللَّهُ عَنْكُمْ، كَأَنَّكُمُ الَّذِي تُدْعَوْنَ فَتُحْشَرُونَ مِنَ الْقُبُورِ فَقَالَ الْفِتْيَةُ لتيذوسيس: إِنَّا نُودِعُكَ السَّلَامَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، حَفِظَكَ اللَّهُ، وَحَفِظَ لَكَ مُلْكَكَ بِالسَّلَامِ، وَنُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَأَمَرَ بِعَيْشٍ مِنْ خُلَّرٍ وَنَشِيلٍ. إِنَّ أَسْوَأَ مَا سَلَكَ فِي بَطْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَعْلَمَ شَيْئًا إِلَّا كَرَامَةً إِنْ أُكْرِمَ بِهَا، وَلَا هَوَانَ إِنْ أُهِينَ بِهِ. فَبَيْنَمَا الْمَلِكُ قَائِمٌ، إِذْ رَجَعُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، فَنَامُوا، وَتَوَفَّى اللَّهُ أَنْفُسَهُمْ بِأَمْرِهِ. وَقَامَ الْمَلِكُ إِلَيْهِمْ، فَجَعَلَ ثِيَابَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ أَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تَابُوتًا مِنْ ذَهَبٍ، فَلَمَّا أَمْسَوْا وَنَامَ، أَتَوْهُ فِي الْمَنَامِ، فَقَالُوا: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ مِنْ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، وَلَكِنَّا خُلِقْنَا مِنْ تُرَابٍ وَإِلَى التُّرَابِ نَصِيرُ، فَاتْرُكْنَا كَمَا كُنَّا فِي الْكَهْفِ عَلَى التُّرَابِ حَتَّى يَبْعَثَنَا اللَّهُ مِنْهُ، فَأَمَرَ الْمَلِكُ حِينَئِذٍ بِتَابُوتٍ مِنْ سَاجٍ، فَجَعَلُوهُمْ فِيهِ، -[210]- وَحَجَبَهُمُ اللَّهُ حِينَ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِمْ بِالرُّعْبِ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ. وَأَمَرَ الْمَلِكُ فَجُعِلَ كَهْفُهُمْ مَسْجِدًا يُصَلَّى فِيهِ، وَجُعِلَ لَهُمْ عِيدًا عَظِيمًا، وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى كُلَّ سَنَةٍ. فَهَذَا حَدِيثُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015