- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زَنْجُوَيْهِ، قَالَا: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ، وَاللَّفْظُ، لِحَدِيثِ ابْنِ حُمَيْدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِإِرْمِيَا حِينَ بَعَثَهُ نَبِيًّا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: يَا إِرْمِيَا مِنْ قَبْلِ أَنْ أَخْلُقَكَ اخْتَرْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُصَوِّرَكَ فِي بَطْنِ أُمِّكَ قَدَّسْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْرِجَكَ مِنْ بَطْنِ أُمِّكَ -[491]- طَهَّرْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ السَّعْيَ نَبَّأْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ الْأَشُدَّ اخْتَرْتُكَ، وَلِأَمْرٍ عَظِيمٍ اخْتَبَأْتُكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِرْمِيَا إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُسَدِّدُهُ وَيَرْشُدُهُ، وَيَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، قَالَ: ثُمَّ عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَكِبُوا الْمَعَاصِيَ، وَاسْتَحَلُّوا الْمَحَارِمَ، وَنَسُوا مَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى صَنَعَ بِهِمْ، وَمَا نَجَّاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ سَنْحَارِيبَ وَجُنُودِهِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى إِرْمَيَاءَ: أَنِ ائْتِ قَوْمَكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاقْصُصْ عَلَيْهِمْ مَا آمُرُكَ بِهِ، وَذَكِّرْهُمْ نِعْمَتِي عَلَيْهِمْ، وَعَرِّفْهُمْ أَحْدَاثَهُمْ، فَقَالَ إِرْمَيَاءُ: إِنِّي ضَعِيفٌ إِنْ لَمْ تُقَوِّنِي، وَعَاجِزٌ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْنِي، وَمُخْطِئٌ إِنْ لَمْ تُسْدِّدْنِي، وَمَخْذُولٌ إِنْ لَمْ تَنْصُرْنِي، وَذَلِيلٌ إِنْ لَمْ تُعِزَّنِي. قَالَ: اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَوَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا تَصْدُرَ عَنْ مَشِيئَتِي، وَأَنَّ الْقُلُوبَ كُلَّهَا وَالْأَلْسِنَةَ بِيَدِي، أُقَلِّبُهَا كَيْفَ شِئْتُ، فَتُطِيعُنِي، وَإِنِّي أَنَا اللَّهُ الَّذِي لَا شَيْءَ مِثْلِي، قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهِنَّ بِكَلِمَتِي، وَأَنَا كَلَّمْتُ الْبِحَارَ، فَفَهِمَتْ قُولِي، وَأَمَرْتُهَا فَعَقَلَتْ أَمْرِي، وَحَدَّدْتُ عَلَيْهَا بِالْبَطْحَاءِ فَلَا تَعَدَّى حَدِّي، تَأْتِي بِأَمْوَاجٍ كَالْجِبَالِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ حَدِّي أَلْبَسْتُهَا مَذَلَّةَ طَاعَتِي خَوْفًا وَاعْتِرَافًا لِأَمْرِي، إِنِّي مَعَكَ وَلَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ شَيْءٌ مَعِي، وَإِنْ بَعَثْتُكَ إِلَى خَلْقٍ عَظِيمٍ مِنْ خَلْقِي، لِتُبَلِّغَهُمْ رِسَالَاتِي، وَلِتَسْتَحِقَّ بِذَلِكَ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَإِنْ تُقَصِّرْ عَنْهَا فَلَكَ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ تَرْكَبُ فِي عَمَاهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا، انْطَلِقْ إِلَى -[492]- قَوْمِكَ فَقُلْ: إِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ لَكُمْ صَلَاحَ آبَائِكُمْ، فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَسْتَتِيبَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَبْنَاءِ، وَسَلْهُمْ كَيْفَ وَجَدَ آبَاؤُهُمْ مَغَبَّةَ طَاعَتِي، وَكَيْفَ وَجَدُوا هُمْ مَغَبَّةَ مَعْصِيَتِي، وَهَلْ عَلِمُوا أَنَّ أَحَدًا قَبْلَهُمْ أَطَاعَنِي فَشَقِيَ بِطَاعَتِي، أَوْ عَصَانِي فَسَعِدَ بِمَعْصِيَتِي، فَإِنَّ الدَّوَابَّ مِمَّا تَذْكُرُ أَوْطَانَهَا الصَّالِحَةَ فَتَنْتَابُهَا، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ رَتَعُوا فِي مُرُوجِ الْهَلَكَةِ. أَمَّا أَحْبَارُهُمْ وَرُهْبَانُهُمْ فَاتَّخَذُوا عِبَادِي خَوَلًا لِيَعَبْدُوهُمْ دُونِي وَتَحَكَّمُوا فِيهِمْ بِغَيْرِ كِتَابِي حَتَّى أَجْهَلُوهُمْ أَمْرِي، وَأَنْسَوْهُمْ ذِكْرِي، وَغَرُّوهُمْ مِنِّي. أَمَّا أُمَرَاؤُهُمْ وَقَادَاتُهُمْ فَبَطِرُوا نِعْمَتِي، وَأَمِنُوا مَكْرِي، وَنَبَذُوا كِتَابِي، وَنَسَوْا عَهْدِي، وَغَيَّرُوا سُنَّتِي، فَأَدَانَ لَهُمْ عِبَادِي بِالطَّاعَةِ الَّتِي لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِي، فَهُمْ يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَتِي، وَيُتَابِعُونَهُمْ عَلَى الْبِدَعِ الَّتِي يَبْتَدِعُونَ فِي دِينِي جَرَاءَةً عَلَيَّ وَغِرَّةً وَفِرْيَةً عَلَيَّ وَعَلَى رُسُلِي، فَسُبْحَانَ جَلَالِي وَعُلُوِّ مَكَانِي، وَعِظَمِ شَأْنِي، فَهَلْ يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يُطَاعَ فِي مَعْصِيَتِي، وَهَلْ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَخْلَقَ عِبَادًا أَجْعَلُهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِي. وَأَمَّا قُرَّاؤُهُمْ وَفُقَهَاؤُهُمْ فَيَتَعَبَّدُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَيَتَزَيَّنُونَ بِعِمَارَتِهَا لِغَيْرِي، لِطَلَبِ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، وَيَتَفَقَّهُونَ فِيهَا لِغَيْرِ الْعِلْمِ، وَيَتَعَلَّمُونَ فِيهَا لِغَيْرِ الْعَمَلِ. وَأَمَّا أَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ، فَمُكْثِرُونَ مَقْهُورُونَ مُغَيِّرُونَ، يَخُوضُونَ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَيَتَمَنَّوْنَ عَلَيَّ مِثْلَ نُصْرَةِ آبَائِهِمْ وَالْكَرَامَةِ الَّتِي أَكْرَمْتُهُمْ بِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنْ لَا أَحَدَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ مِنِّي بِغَيْرِ صِدْقٍ وَلَا تَفَكُّرٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، وَلَا يَذْكُرُونَ كَيْفَ كَانَ صَبْرُ آبَائِهِمْ لِي، وَكَيْفَ كَانَ جِدُّهُمْ فِي أَمْرِي حِينَ غَيَّرَ الْمُغَيِّرُونَ، وَكَيْفَ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ، -[493]- فَصَبَرُوا وَصَدَقُوا حَتَّى عَزَّ أَمْرِي، وَظَهُرَ دِينِي، فَتَأَنَّيْتُ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَعَلَّهُمْ يَسْتَجِيبُونَ، فَأَطْوَلْتُ لَهُمْ، وَصَفَحْتُ عَنْهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فَأَكْثَرْتُ وَمَدَدْتُ لَهُمْ فِي الْعُمُرِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، فَأَعْذَرْتُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، أُمْطِرُ عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ، وَأُنْبِتُ لَهُمُ الْأَرْضَ، وَأُلْبِسُهُمُ الْعَافِيَةَ وَأُظْهِرُهُمْ عَلَى الْعَدُوِّ فَلَا يَزْدَادُونَ إِلَّا طُغْيَانًا وَبُعْدًا مِنِّي، فَحَتَّى مَتَى هَذَا؟ أَبِي يَتَمَرَّسُونَ أَمْ إِيَّايَ يُخَادِعُونَ؟ وَإِنِّي أَحْلِفُ بِعِزَّتِي لَأُقَيِّضَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً يَتَحَيَّرُ فِيهَا الْحَلِيمُ، وَيَضِلُّ فِيهَا رَأْي ذِي الرَّأْيِ وَحِكْمَةُ الْحَكِيمِ، ثُمَّ لَأُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ جَبَّارًا قَاسِيًا عَاتِيًا، أُلْبِسُهُ الْهَيْبَةَ، وَأَنْتَزِعُ مِنْ صَدْرِهِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالْبَيَانَ، يَتْبَعُهُ عَدَدٌ وَسَوَادٌ مِثْلُ سَوَادِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، لَهُ عَسَاكِرُ مِثْلُ قِطَعِ السَّحَابِ، وَمَرَاكِبُ أَمْثَالُ الْعِجَاجِ، كَأَنَّ خَفِيقَ رَايَاتِهِ طَيْرَانُ النُّسُورِ، وَأَنَّ حَمْلَةَ فُرْسَانِهِ كَوَبَرِ الْعِقْبَانِ. ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِرْمِيَا: إِنِّي مُهْلِكٌ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِيَافِثَ، وَيَافِثُ أَهْلُ بَابِلَ، وَهُمْ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. ثُمَّ لَمَّا سَمِعَ إِرْمِيَا وَحْي رَبِّهِ صَاحَ وَبَكَى وَشَقَّ ثِيَابَهُ، وَنَبَذَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: مَلْعُونٌ يَوْمَ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمَ لَقِيتُ التَّوْرَاةَ، وَمِنْ شَرِّ أَيَامِي يَوْمَ وُلِدْتُ فِيهِ، فَمَا أَبْقَيْتَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا لِمَا هُوَ أَشَرُّ عَلَيَّ لَوْ أَرَادَ بِي خَيْرًا مَا جَعَلَنِي آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمِنْ أَجْلِي تُصِيبُهُمُ الشِّقْوَةُ وَالْهَلَاكُ، فَلَمَّا سَمِعَ اللَّهَ تَضَرُّعَ الْخَضِرِ وَبُكَاءَهُ، وَكَيْفَ يَقُولُ، نَادَاهُ: يَا إِرْمِيَا أَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْكَ فِيمَا أَوْحَيْتُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَبِّ أَهْلِكْنِي قَبْلَ أَنْ أَرَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا لَا أُسَرَّ بِهِ فَقَالَ اللَّهُ: وَعِزَّتِي الْعَزِيزَةُ لَا أُهْلِكُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ مِنْ قِبَلِكَ فِي ذَلِكَ فَفَرِحَ عِنْدَ ذَلِكَ إِرْمِيَا لَمَّا قَالَ لَهُ رَبُّهُ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَقَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَ -[494]- مُوسَى وَأَنْبِيَاءَهُ بِالْحَقِّ لَا آمُرُ رَبِّي بِهَلَاكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبَدًا ثُمَّ أَتَى مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَخْبَرَهُ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَاسْتَبْشَرَ وَفَرِحَ وَقَالَ: إِنْ يُعَذِّبْنَا رَبُّنَا فَبِذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ قَدَّمْنَاهَا لِأَنْفُسِنَا، وَإِنْ عَفَا عَنَّا فَبُقْدَرَتِهِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَبِثُوا بَعْدَ هَذَا الْوَحْي ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا مَعْصِيَةً وَتَمَادِيًا فِي الشَّرِّ، وَذَلِكَ حِينَ اقْتَرَبَ هَلَاكُهُمْ، فَقَلَّ الْوَحْي حِينَ لَمْ يَكُونُوا يَتَذَكَّرُونَ الْآخِرَةَ، وَأَمْسَكَ عَنْهُمْ حِينَ أَلْهَتْهُمُ الدُّنْيَا وَشَأْنُهَا، فَقَالَ لَهُمْ مَلِكُهُمْ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، انْتَهُوا عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّكُمْ بَأْسُ اللَّهِ، وَقَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ لَا رَحْمَةَ لَهُمْ بِكُمْ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ قَرِيبُ التَّوْبَةِ، مَبْسُوطُ الْيَدَيْنِ بِالْخَيْرِ، رَحِيمٌ بِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعُوا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْقَى فِي قَلْبِ بُخْتَنَصَّرَ بْنِ نَجُورَ زَاذَانَ بْنِ سَنْحَارِيبَ بْنِ دَارَيَاسَ بْنِ نَمْرُودَ بْنِ فَالِخِ بْنِ عَابِرِ بْنِ نَمْرُودَ صَاحِبِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي حَاجَّهُ فِي رَبِّهِ، أَنْ يَسِيرَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ يَفْعَلُ فِيهِ مَا كَانَ جَدُّهُ سَنْحَارِيبُ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ، فَخَرَجَ فِي سِتِّ مِائَةِ أَلْفِ رَايَةٍ يُرِيدُ أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا فَصَلَ سَائِرًا أَتَى مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْخَبَرُ أَنَّ بُخْتَنَصَّرَ قَدْ أَقْبَلَ هُوَ وَجُنُودُهُ يُرِيدُكُمْ، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ إِلَى إِرْمِيَا، فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا إِرْمِيَا أَيْنَ مَا زَعَمْتَ لَنَا أَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى إِلَيْكَ أَنْ لَا يُهْلِكَ أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى يَكُونَ مِنْكَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ إِرْمِيَا لِلْمَلِكِ: إِنَّ رَبِّي لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَأَنَا بِهِ وَاثِقٌ. فَلَمَّا اقْتَرَبَ الْأَجَلُ وَدَنَا انْقِطَاعُ مُلْكِهِمْ وَعَزَمَ اللَّهُ عَلَى هَلَاكِهِمْ، بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى إِرْمِيَا فَاسْتَفْتِهِ، وَأْمُرْهُ بِالَّذِي يُسْتَفْتَى فِيهِ، فَأَقْبَلَ الْمَلَكُ إِلَى إِرْمِيَاءَ، وَكَانَ قَدْ تَمَثَّلَ لَهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُ إِرْمِيَا: مَنْ أَنْتَ؟ -[495]- قَالَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَسْتَفْتِيكَ فِي بَعْضِ أَمْرِي، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتَيْتُكَ أَسْتَفْتِيكَ فِي أَهْلِ رَحِمِي، وَصَلْتُ أَرْحَامَهُمْ بِمَا أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ، لَمْ آتِ إِلَيْهِمْ إِلَّا حَسَنًا، وَلَمْ آلُهُمْ كَرَامَةً، فَلَا تَزِيدُهُمْ كَرَامَتِي إِيَّاهُمْ إِلَّا إِسْخَاطًا لِي، فَأَفْتِنِي فِيهِمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ: أَحْسِنْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَصِلْ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ أَنْ تَصِلَ، وَأَبْشِرْ بِخَيْرٍ وَانْصَرَفَ عَنْهُ. فَمَكَثَ أَيَّامًا، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الَّذِي جَاءَهُ، فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ إِرْمِيَا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الرَّجُلُ الَّذِي آتَيْتُكَ أَسْتَفْتِيكَ فِي شَأْنِ أَهْلِي، فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ: أَوَمَا ظَهَرَتْ لَكَ أَخْلَاقُهُمْ بَعْدُ، وَلَمْ تَرَ مِنْهُمُ الَّذِي تُحِبُّ؟ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَعْلَمُ كَرَامَةً يَأْتِيهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ لِأَهْلِ رَحِمِهِ إِلَّا قَدْ أَتَيْتُهَا إِلَيْهِمْ وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ: ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ، أَسْأَلُ اللَّهَ الَّذِي يُصْلِحُ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ أَنْ يُصْلِحَ ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَنْ يَجْمَعَكُمْ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَيُجَنِّبَكُمْ سَخَطَهُ، فَقَامَ الْمَلَكُ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَبِثَ أَيَّامًا وَقَدْ نَزَلَ بُخْتُنَصَّرُ وَجُنُودُهُ حَوْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَعَهُ خَلَائِقُ مِنْ قَوْمِهِ كَأَمْثَالِ الْجَرَادِ، فَفَزِعَ مِنْهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَعَا إِرْمِيَا، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيْنَ مَا وَعَدَكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: إِنِّي بِرَبِّي وَاثِقٌ. ثُمَّ إِنَّ الْمَلَكَ أَقْبَلَ إِلَى إِرْمِيَا وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى جِدَارِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَضْحَكُ وَيَسْتَبْشِرُ بِنَصْرِ رَبِّهِ الَّذِي وَعَدَهُ، فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ إِرْمِيَا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الَّذِي كُنْتُ آتَيْتُكَ فِي شَأْنِ أَهْلِي مَرَّتَيْنٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: أَوَلَمْ يَأْنِ -[496]- لَهُمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنَ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُقِيمُونَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كُلُّ شَيْءٍ كَانَ يُصِيبَنِي مِنْهُمْ قَبْلَ الْيَوْمِ كُنْتُ أَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَأَعْلَمُ أَنَّ مَأْرَبَهُمْ فِي ذَلِكَ سَخَطِي، فَلَمَّا أَتَيْتُهُمُ الْيَوْمَ رَأَيْتُهُمْ فِي عَمَلٍ لَا يُرْضِي اللَّهَ وَلَا يُحِبُّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ: عَلَى أَيِّ عَمَلٍ رَأَيْتَهُمْ؟ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ رَأَيْتُهُمْ عَلَى عَمَلٍ عَظِيمٍ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، فَلَوْ كَانُوا عَلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْيَوْمِ لَمْ يَشْتَدَّ عَلَيْهِمْ غَضَبِي، وَصَبَرْتُ لَهُمْ وَرَجَوْتُهُمْ، وَلَكِنْ غَضِبْتُ الْيَوْمَ لِلَّهِ وَلَكَ، فَأَتَيْتُكَ لِأُخْبِرَكَ خَبَرَهُمْ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِلَّا مَا دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ رَبَّكَ أَنْ يُهْلِكَهُمْ، فَقَالَ إِرْمِيَا: يَا مَالِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، إِنْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ وَصَوَابٍ فَأَبْقِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى سَخَطِكَ وَعَمَلٍ لَا تَرْضَاهُ فَأَهْلِكْهُمْ. فَمَا خَرَجَتِ الْكَلِمَةُ مِنْ فِي إِرْمِيَا حَتَّى أَرْسَلَ اللَّهُ صَاعِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَالْتَهَبَ مَكَانُ الْقُرْبَانِ، وَخُسِفَ بِسَبْعَةِ أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ إِرْمِيَا صَاحَ وَشَقَّ ثِيَابَهُ، وَنَبَذَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: يَا مَلِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِيَدِكَ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَيْنَ مِيعَادُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي؟ فَنُودِيَ إِرميَا: إِنَّهُمْ لَمْ يُصِبْهُمُ الَّذِي أَصَابَهُمْ إِلَّا بِفُتْيَاكَ الَّتِي أَفْتَيْتَ بِهَا رَسُولَنَا، فَاسْتَيْقَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا فُتْيَاهُ الَّتِي أَفْتَى بِهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّهِ. ثُمَّ إِنَّ إِرْمِيَا طَارَ حَتَّى خَالَطَ الْوَحْشَ، وَدَخَلَ بخْتَنَصَّرُ وَجُنُودُهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَوَطِئَ الشَّامَ، وَقَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَفْنَاهُمْ، وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، أَمَرَ جُنُودَهُ أَنْ يَمْلَأَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تُرْسَهُ تُرَابًا -[497]- ثُمَّ يَقْذِفُهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَذَفُوا فِيهِ التُّرَابَ حَتَّى مَلَئُوهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى أَرْضِ بَابِلَ، وَاحْتَمَلَ مَعَهُ سَبَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا مَنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ كُلَّهُمْ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ كُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاخْتَارَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ أَلْفَ صَبِيٍّ، فَلَمَّا خَرَجَتْ غَنَائِمُ جُنْدِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَقْسِمَهَا فِيهِمْ، قَالَتْ لَهُ الْمُلُوكُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ لَكَ غَنَائِمَنَا كُلَّهَا، وَاقْسِمْ بَيْنَنَا هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ اخْتَرْتَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَفَعَلَ وَأَصَابَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ أَغْلِمَةٍ، وَكَانَ مِنْ أُولَئِكِ الْغِلْمَانِ دانْيَالُ وَحَنَانْيَا وَعَزَارَيَا وَمِيشَائِيلُ وَسَبْعَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ دَاوُدَ، وَأَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَخِيهِ بِنْيَامِينَ، وَثَمَانِيَةُ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ أَشَرِ بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ زَبَالُونَ بْنِ يَعْقُوبَ وَنفثالي بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ رُوبِيلَ وَلَاوِي ابْنَيْ يَعْقُوبَ. وَمَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَجَعَلَهُمْ بُخْتَنَصَّرَ ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَثُلُثًا أَقَرَّ بِالشَّامِ، وَثُلُثًا سَبَى، وَثُلُثًا قَتَلَ، وَذَهَبَ بِآنِيَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى أَقْدَمَهَا بَابِلَ، وَذَهَبَ بِالصِّبْيَانِ السَّبْعِينَ الْأَلْفِ حَتَّى أَقْدَمَهُمْ بَابِلَ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ الْأُولَى الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِحْدَاثِهِمْ وَظُلْمِهِمْ. فَلَمَّا وَلى بُخْتَنَصَّرَ عَنْهُمْ رَاجِعًا إِلَى بَابٍ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ سَبَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَقْبَلَ إِرْمِيَا عَلَى حِمَارٍ لَهُ مَعَهُ عَصِيرٌ ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّتَهُ حِينَ أَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ، ثُمَّ خَبَرَ رُؤْيَا بُخْتَنَصَّرَ وَأَمْرَ دَانْيَالَ، وَهَلَاكَ بُخْتَنَصَّرَ، وَرُجُوعَ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَيْدِي أَصْحَابِ بُخْتَنَصَّرَ بَعْدَ هَلَاكِهِ إِلَى الشَّامِ، وَعُمَارَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَمْرَ عُزَيْرٍ وَكَيْفَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ