ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] قَالَ: أَمَرَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ عَشْرَ سِنِينَ بِمَكَّةَ. قَالَ: ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَقْعُدُ لَهُمْ كُلَّ مُرْصَدٍ وَأَنْ يَحْصُرَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [التوبة: 5] الْآيَةَ كُلَّهَا، وَقَرَأَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] قَالَ: وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] بَعْدَمَا كَانَ أَمَرَهُمْ بِالْعَفْوِ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] ثُمَّ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ الْقَتْلُ، فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَفْوَ " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: خُذِ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ، وَاتْرُكِ الْغِلْظَةَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: أُمِرَ بِذَلِكَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُشْرِكِينَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ تَعْلِيمَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَاجَّتَهُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْكَلَامِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 195] ، وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} [الأعراف: 203] فَمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ تَأْدِيبِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِشْرَتِهِمْ بِهِ أَشْبَهُ وَأَوْلَى مِنَ الِاعْتِرَاضِ -[643]- بِأَمْرِهِ بِأَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَفَمَنْسُوخٌ ذَلِكَ؟ قِيلَ: لَا دَلَالَةَ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ إِذْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْرِيفِهِ عِشْرَةَ مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مُرَادًا بِهِ تَأْدِيبَ نَبِيِّ اللَّهِ وَالْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا فِي عِشْرَةِ النَّاسِ وَأَمْرِهِمْ بِأَخْذِ عَفُوِ أَخْلَاقِهِمْ، فَيَكُونُ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِهِمْ نَزَلَ تَعْلِيمًا مِنَ اللَّهِ خَلْقَهُ صِفَةَ عِشْرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، لَمْ يَجِبِ اسْتِعْمَالُ الْغِلْظَةِ وَالشِّدَّةِ فِي بَعْضِهِمْ، فَإِذَا وَجَبَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِيهِمُ اسْتُعْمِلَ الْوَاجِبُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] أَمْرًا بِأَخْذِهِ مَا لَمْ يَجِبْ غَيْرُ الْعَفْوِ، فَإِذَا وَجَبَ غَيْرُهُ أُخِذَ الْوَاجِبُ وَغَيْرُ الْوَاجِبِ إِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ، فَلَا يُحْكَمُ عَلَى الْآيَةِ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ لِمَا قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي نَظَائِرِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِنَا