حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ، مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ {وَإِذْ} [البقرة: 30] بِمَعْنَى (وَإِذَا) ، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} [سبأ: 51] بِمَعْنَى: يَفْزَعُونَ. وَكَمَا قَالَ أَبُو النَّجْمِ:
[البحر الرجز]
ثُمَّ جَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا إِذْ جَزَى ... جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي الْعَلَالِيِّ الْعُلَا
وَالْمَعْنَى: إِذَا جَزَى. وَكَمَا قَالَ الْأَسْوَدُ:
[البحر الطويل]
-[135]- فَالْآنَ إِذْ هَازَلْتُهُنَّ فَإِنَّمَا ... يَقُلْنَ أَلَا لَمْ يَذْهَبِ الشَّيْخُ مَذْهَبَا
بِمَعْنَى: إِذَا هَازَلْتُهُنَّ. وَكَأَنَّ مَنْ قَالَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ هَذَا، وَجَّهَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ إِلَى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115] فِي الدُّنْيَا، وَأُعَذِّبُهُ أَيْضًا فِي الْآخِرَةِ، {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] . وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، قَوْلُ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ السُّدِّيِّ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ ذَلِكَ لِعِيسَى حِينَ رَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ خَبَرٌ عَمَّا مَضَى لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ (إِذْ) إِنَّمَا تُصَاحِبُ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْمَلِ بَيْنَهَا الْمَاضِيَ مِنَ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَدْخُلُهَا أَحْيَانًا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَمَّا يَحْدُثُ إِذَا عَرَفَ السَّامِعُونَ مَعْنَاهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ فَاشٍ وَلَا فَصِيحٍ فِي كَلَامِهِمْ، فَتَوْجِيهُ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْأَشْهَرِ الْأَعْرَفِ مَا وُجِدَ إِلَيْهِ السَّبِيلُ أَوْلَى مِنْ تَوْجِيهِهَا إِلَى الْأَجْهَلِ الْأَنْكَرِ. وَالْأُخْرَى: أَنَّ عِيسَى لَمْ يَشُكَّ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِمُشْرِكٍ مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَلَى عِيسَى أَنْ يَقُولَ فِي الْآخِرَةِ مُجِيبًا لِرَبِّهِ تَعَالَى: إِنْ تُعَذِّبْ مَنِ اتَّخَذَنِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِكَ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا كَانَ وَجْهُ سُؤَالِ اللَّهِ عِيسَى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ، وَهُوَ الْعَالِمُ بِأَنَّ عِيسَى لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ؟ قِيلَ: يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ مِنَ التَّأْوِيلِ. -[136]- أَحَدُهُمَا: تَحْذِيرُ عِيسَى عَنْ قِيلِ ذَلِكَ وَنَهْيُهُ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِآخَرَ: أَفَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ مِمَّا يَعْلَمُ الْمَقُولُ لَهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلَ يَسْتَعْظِمُ فِعْلَ مَا قَالَ لَهُ: (أَفَعَلْتَهُ) عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ وَالتَّهْدِيدِ لَهُ فِيهِ. وَالْآخَرُ: إِعْلَامُهُ أَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ فَارَقَهُمْ قَدْ خَالَفُوا عَهْدَهُ وَبَدَّلُوا دِينَهُمْ بَعْدَهُ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ جَامِعًا إِعْلَامَهُ حَالَهُمْ بَعْدَهُ وَتَحْذِيرَهُ لَهُ قِيلَهُ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ} [المائدة: 116] ، أَيْ مَعْبُودَيْنِ تَعْبُدُونَهُمَا مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قَالَ عِيسَى: تَنْزِيهًا لَكَ يَا رَبِّ وَتَعْظِيمًا أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ أَوْ أَتَكَلَّمَ بِهِ، مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، يَقُولُ: لَيْسَ لِي أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ لِأَنِّي عَبْدٌ مَخْلُوقٌ، وَأُمِّي أَمَةٌ لَكَ، فَهَلْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ادِّعَاءُ رُبُوبِيَّةٍ؟ {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ عَالِمٌ أَنِّي لَمْ أَقُلْ ذَلِكَ وَلَمْ آمُرْهُمْ بِهِ