قبلك، جعلنا مألفا يألفونه ومكانا يعتادونه لعبادتي فيه، وقضاء فرائضي، وعملا يلزمونه. وأصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شرّ; يقال: إن لفلان منسكا يعتاده: يراد مكانا يغشاه ويألفه لخير أو شر. وإنما سميت مناسك الحجّ بذلك، لتردّد الناس إلى الأماكن التي تعمل فيها أعمال الحجّ والعُمرة. وفيه لغتان: "مَنْسِك" بكسر السين وفتح الميم، وذلك من لغة أهل الحجاز، و "مَنْسَك" بفتح الميم والسين جميعا، وذلك من لغة أسد. وقد قرئ باللغتين جميعا.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا) أيّ المناسك عنى به؟ فقال بعضهم: عنى به: عيدهم الذي يعتادونه.
*ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ) يقول: عيدا.
وقال آخرون: عنى به: ذبح يذبحونه، ودم يهريقونه.
*ذكر من قال ذلك: حدثني أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا ابن جُرَيج، عن مجاهد، في قوله: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ) قال: إراقة الدم بمكة.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (هُمْ نَاسِكُوهُ) قال: إهراق دماء الهدي.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: (مَنْسَكا) قال: ذبحا وحجا.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: عني بذلك إراقة الدم أيام النحر بمِنى، لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إراقة الدم في هذه الأيام، على أنهم قد كانوا جادلوه في إراقة الدماء التي هي دماء ذبائح الأنعام بما قد أخبر الله عنهم في سورة الأنعام. غير أن تلك لم تكن مناسك، فأما التي هي مناسك فإنما هي هدايا أو ضحايا. ولذلك