الظَّالِمِينَ} وهذا الجزاء عام لكل من اتصف بهذه الأوصاف، من جميع أهل الأديان السابقة.
ثم لما بعث سيد المرسلين، وخاتم النبيين، ونسخت رسالته الرسالات كلها، ونسخ دينه جميع الأديان، صار المتمسك بغير هذا الدين من الهالكين.
{58} وقوله تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} أي: هذا القرآن العظيم، الذي فيه نبأ الأولين والآخرين، والأنبياء والمرسلين، هو آيات الله البينات، وهو الذي يذكر العباد كل ما يحتاجونه، وهو الحكيم المحكم، صادق الأخبار، حسن الأحكام.
{59- 62} {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} لما ذكر قصة مريم وعيسى ونبأهما الحق، وأنه عبد أنعم الله عليه، وأن من زعم أن فيه شيئا من الإلهية، فقد كذب على الله، وكذب جميع أنبيائه، وكذب عيسى -صلى الله عليه وسلم-، فإن الشبهة التي عرضت لمن اتخذه إلها، شبهة باطلة، فلو كان لها وجه صحيح، لكان آدم أحق منه، فإنه خلق من دون أم ولا أب، ومع ذلك، فاتفق البشر كلهم على أنه عبد من عباد الله، فدعوى إلهية عيسى، بكونه خلق من أم بلا أب، دعوى من أبطل الدعاوى.
{60} وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه، أن عيسى- كما قال عن نفسه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} وكان قد قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وفد نصارى نجران، وقد تصلبوا على باطلهم، بعدما أقام عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- البراهين بأن عيسى عبد الله ورسوله، حيث زعموا إلهيته.
{61} فوصلت به وبهم الحال، إلى أن أمره الله تعالى أن يباهلهم، فإنه قد اتضح لهم الحق، ولكن العناد والتعصب منعاهم منه.
فدعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المباهلة، بأن يحضر هو وأهله وأبناؤه، وهم يحضرون بأهلهم وأبنائهم، ثم يدعون الله تعالى، أن ينزل عقوبته ولعنته على الكاذبين، فتشاوروا هل يجيبونه إلى ذلك؟
فاتفق رأيهم أن لا يجيبوه، لأنهم عرفوا أنه نبي الله حقا وأنهم- إن باهلوه- هلكوا، هم وأولادهم وأهلوهم، فصالحوه وبذلوا له الجزية، وطلبوا منه الموادعة والمهادنة.
فأجابهم -صلى الله عليه وسلم- ولم يحرجهم، لأنه حصل المقصود من وضوح الحق، وتبين عنادهم حيث صمموا على الامتناع عن المباهلة، وذلك يبرهن على أنهم كانوا ظالمين.
{62} ولهذا قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} أي: لا ريب فيه، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} الذي قهر بقدرته وقوته جميع الموجودات، وأذعنت له سكان الأرض والسماوات.
ومع ذلك فهو {الْحَكِيمُ} الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها (?) .
{64} {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} هذه الآية الكريمة، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكتب بها إلى ملوك أهل الكتاب، وكان يقرأ أحيانا في الركعة الأولى من سنة الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية.
ويقرأ بها في الركعة الآخرة من سنة الصبح، لاشتمالها على الدعوة إلى دين واحد، قد اتفق عليه الأنبياء والمرسلون، واحتوت على توحيد الإلهية المبني على عبادة الله وحده، لا شريك له، وأن يعتقد أن البشر وجميع الخلق كلهم في طور البشرية، لا يستحق منهم أحد شيئا من خصائص الربوبية، ولا من نعوت الإلهية.
فإن انقاد أهل الكتاب وغيرهم إلى هذا فقد اهتدوا.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى آخرها.
{65- 68} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} كانت الأديان كلها، اليهود والنصارى، والمشركون، وكذلك المسلمون كلهم، يدعون أنهم على ملة إبراهيم.
فأخبر الله تعالى أن أولى الناس به، محمد -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه، وأتباع الخليل، قبل محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وأما اليهود والنصارى، والمشركون فإبراهيم بريء منهم، ومن ولايتهم، لأن دينه، الحنيفية السمحة، التي فيها الإيمان بجميع الرسل، وجميع الكتب، وهذه خصيصة المسلمين.
وأما دعوى اليهود والنصارى أنهم على ملة إبراهيم، فقد علم أن اليهودية والنصرانية، التي هم يدعون أنهم عليها، لم تؤسس إلا بعد الخليل.
فكيف يحاجون في هذا الأمر، الذي يعلم به كذبهم وافتراؤهم؟! فهب أنهم حاجوا فيما لهم به علم، فكيف يحاجون في هذه الحالة؟ فهذا قبل أن ينظر ما احتوى عليه قولهم من البطلان، يعلم فساد دعواهم.
وفي هذه الآية دليل على أنه لا يحل للإنسان أن يقول أو يجادل فيما لا علم له به.
وقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} فكلما قوي إيمان العبد، تولاه الله بلطفه، ويسره لليسرى، وجنبه العسرى.
{69- 74} {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ