تفسير سورة آل عمران وهي مدنية

{1- 6} {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {الم} من الحروف التي لا يعلم معناها إلا الله.

{2- 3} فأخبر تعالى أنه {الْحَيُّ} كامل الحياة، {الْقَيُّومُ} القائم بنفسه، المقيم لأحوال خلقه، وقد أقام أحوالهم الدينية، وأحوالهم الدنيوية والقدرية، فأنزل على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- الكتاب بالحق، الذي لا ريب فيه، وهو مشتمل على الحق {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب، أي: شهد بما شهدت به، ووافقها، وصدق من جاء بها من المرسلين.

وكذلك {أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}

{4} {مِنْ قَبْلُ} هذا الكتاب {هُدًى لِلنَّاسِ}

وأكمل الرسالة وختمها بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وكتابه العظيم الذي هدى الله به الخلق، من الضلالات، واستنقذهم به من الجهالات، وفرق به بين الحق والباطل، والسعادة والشقاوة، والصراط المستقيم، وطرق الجحيم، فالذين آمنوا به واهتدوا، حصل لهم به الخير الكثير، والثواب العاجل والآجل.

و {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} التي بينها في كتابه وعلى لسان رسوله {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} ممن عصاه.

{5} ومن تمام قيوميته تعالى، أن علمه محيط بالخلائق {لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} حتى ما في بطون الحوامل.

{6} فهو {الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} من ذكر وأنثى، وكامل الخلق وناقصه، متنقلين في أطوار خلقته وبديع حكمته، فمن هذا شأنه مع عباده، واعتناؤه العظيم بأحوالهم، من حين أنشأهم إلى منتهى أمورهم لا مشارك له في ذلك- فيتعين أنه لا يستحق العبادة إلا هو.

{لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ} الذي قهر الخلائق بقوته، واعتز عن أن يوصف بنقص أو ينعت بذم {الْحَكِيمُ} في خلقه وشرعه.

{7- 8} {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} يخبر تعالى عن عظمته، وكمال قيوميته، أنه هو الذي تفرد بإنزال هذا الكتاب العظيم، الذي لم يوجد- ولن يوجد- له نظير أو مقارب في هدايته، وبلاغته وإعجازه، وإصلاحه للخلق، وأن هذا الكتاب يحتوي على المحكم الواضح المعاني البين، الذي لا يشتبه بغيره، ومنه آيات متشابهات، تحتمل بعض المعاني، ولا يتعين منها واحد من الاحتمالين بمجردها، حتى تضم إلى المحكم.

فالذين في قلوبهم مرض وزيغ، وانحراف، لسوء قصدهم، يتبعون المتشابه منه، فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة، وآرائهم الزائفة، طلبا للفتنة، وتحريفا لكتابه، وتأويلا له على مشاربهم ومذاهبهم ليضلوا ويضلوا.

وأما أهل العلم الراسخون فيه، الذين وصل العلم واليقين إلى أفئدتهم، فأثمر لهم العمل والمعارف- فيعلمون أن القرآن كله من عند الله، وأن كله حق، محكمه ومتشابهه، وأن الحق لا يتناقض ولا يختلف.

فلعلمهم أن المحكمات، معناها في غاية الصراحة والبيان، يردون إليها المشتبه، الذي تحصل فيه الحيرة لناقص العلم، وناقص المعرفة.

فيردون المتشابه إلى المحكم، فيعود كله محكما، ويقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ} للأمور النافعة، والعلوم الصائبة {إِلا أُولُو الأَلْبَابِ}

أي: أهل العقول الرزينة.

ففي هذا دليل على أن هذا من علامة أولي الألباب، وأن اتباع المتشابه، من أوصاف أهل الآراء السقيمة، والعقول الواهية، والقصود السيئة.

وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} إن أريد بالتأويل معرفة عاقبة الأمور، وما تنتهي وتؤول إليه، تعين الوقوف على "إلا الله" حيث هو تعالى المتفرد بالتأويل بهذا المعنى، وإن أريد بالتأويل: معنى التفسير، ومعرفة معنى الكلام كان العطف أولى، فيكون هذا مدحا للراسخين في العلم، أنهم يعلمون كيف ينزلون نصوص الكتاب والسنة، محكمها ومتشابهها، ولما كان المقام مقام انقسام إلى منحرفين ومستقيمين، دعوا الله تعالى أن يثبتهم على الإيمان، فقالوا: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} أي: لا تملها عن الحق إلى الباطل.

{بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} تصلح بها أحوالنا {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} أي: كثير الفضل والهبات.

وذلك أن الله تعالى ذكر عن الراسخين، أنهم يسألونه أن لا يزيغ قلوبهم، بعد إذ هداهم، وقد أخبر في آيات أخر الأسباب التي بها تزيغ قلوب أهل الانحراف، وأن ذلك بسبب كسبهم، كقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}

فالعبد إذا تولى عن ربه، ووالى عدوه، ورأى الحق، فصدف عنه، ورأى الباطل فاختاره، ولاه الله ما تولى لنفسه، وأزاغ قلبه، عقوبة له على زيغه، وما ظلمه الله، ولكنه ظلم نفسه، فلا يلم إلا نفسه الأمارة بالسوء، والله أعلم.

{9} {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} هذا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015