أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَالْمَعْنَى: وَلَا تُطِيعُوهُ وَمَعْرُوفٌ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ فِيمَنِ اتَّبَعَ سُنَّةَ إِنْسَانٍ اقْتَفَى أَثَرَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: اتَّبَعْتُ خُطُوَاتِهِ. وَخُطُوَاتٌ/ جَمْعُ خُطْوَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّ مُبِينٌ مِنْ صِفَاتِ الْبَلِيغِ الَّذِي يُعْرِبُ عَنْ ضَمِيرِهِ، وَأَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ [الزخرف: 1، الدُّخَانِ:

1] وَلَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ مُبِينًا إِلَّا ذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ وَصْفُ الشَّيْطَانِ بِأَنَّهُ مُبِينٌ مَعَ أَنَّا لَا نَرَى ذَاتَهُ وَلَا نَسْمَعُ كَلَامَهُ.

قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ عَدَاوَتَهُ لِآدَمَ وَنَسْلِهِ فَلِذَلِكَ الْأَمْرِ صَحَّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَإِنْ لَمْ يُشَاهَدْ وَمِثَالُهُ: مَنْ يُظْهِرُ عَدَاوَتَهُ لِرَجُلٍ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ فَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَلَانًا عَدُوٌّ مُبِينٌ لَكَ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ فِي الْحَالِ وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِبَانَةِ الْقَطْعُ وَالْبَيَانُ إِنَّمَا سُمِّيَ بَيَانًا لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ بَعْضَ الِاحْتِمَالَاتِ عَنْ بَعْضٍ، فَوَصْفُ الشَّيْطَانِ بِأَنَّهُ مُبِينٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْطَعُ الْمُكَلَّفَ بِوَسْوَسَتِهِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ وَرِضْوَانِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: كَوْنُ الشَّيْطَانِ عدوا لنا إما أن يكون بسبب أنه يُقْصَدَ إِيصَالُ الْآلَامِ وَالْمَكَارِهِ إِلَيْنَا فِي الْحَالِ، أَوْ بِسَبَبِ أَنَّهُ بِوَسْوَسَتِهِ يَمْنَعُنَا عَنِ الدِّينِ وَالثَّوَابِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَوْقَعَنَا فِي الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ وَالشَّدَائِدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ مَنْ قَبِلَ مِنْهُ تِلْكَ الْوَسْوَسَةَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ كَمَا قَالَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: 22] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُبِينُ الْعَدَاوَةِ، وَالْحَالُ مَا ذَكَرْنَاهُ؟.

الْجَوَابُ: أَنَّهُ عَدُوٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ مَعًا أَمَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُحَاوِلُ إِيصَالَ الضَّرَرِ إِلَيْنَا فَهُوَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مُرِيدًا لِإِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْنَا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهَا وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُقْدِمُ عَلَى الْوَسْوَسَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَزْيِينَ الْمَعَاصِي وَإِلْقَاءَ الشُّبُهَاتِ كُلُّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْإِنْسَانِ فِي الْبَاطِلِ وَبِهِ يَصِيرُ مَحْرُومًا عَنِ الثَّوَابِ، فَكَانَ ذَلِكَ من أعظم جهات العداوة.

[سورة البقرة (2) : آية 209]

فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ زَلَلْتُمْ بِكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى وَهُمَا لُغَتَانِ كَضَلَلْتُ وَضَلِلْتُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَالُ: زَلَّ يَزِلُّ زُلُولًا وَزِلْزَالًا إِذَا دَحَضَتْ قَدَمُهُ وَزَلَّ فِي الطِّينِ، وَيُقَالُ لِمَنْ زَلَّ فِي حَالٍ كَانَ عَلَيْهَا: زَلَّتْ بِهِ الْحَالُ، وَيُسَمَّى الذَّنْبُ زَلَّةً، يُرِيدُونَ بِهِ الزَّلَّةَ لِلزَّوَالِ عَنِ الْوَاجِبِ فَقَوْلُهُ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ أَيْ أَخْطَأْتُمُ الْحَقَّ وَتَعَدَّيْتُمُوهُ، وَأَمَّا سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، فَمَنْ قَالَ فِي الْأَوَّلِ: إِنَّهُ فِي الْمُنَافِقِينَ، فَكَذَا الثَّانِي، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَذَا/ الثَّانِي، وَقِسِ الْبَاقِيَ عَلَيْهِ.

يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ فِي تَحْرِيمِ السَّبْتِ وَلَحْمِ الْإِبِلِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَائِعُهُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ بِالنِّقْمَةِ حَكِيمٌ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا لَئِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَنَتْرُكَنَّ كُلَّ كِتَابٍ غَيْرَ كتابك، فأنزل الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاءِ: 136] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015