عَلَى الْإِخْفَاءِ وَالْمُجَامَلَةِ بَلْ يَهْتِكُ حِجَابَ الْمُجَامَلَةِ وَيُظْهِرُ الْعَدَاوَةَ بِالْمُكَاشَفَةِ وَأَكْثَرُ الْمُحَاسَدَاتِ تَجْتَمِعُ فِيهَا جُمْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَقَلَّمَا يَتَجَرَّدُ وَاحِدٌ مِنْهَا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي سَبَبِ كَثْرَةِ الْحَسَدِ وَقِلَّتِهِ وَقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ. اعْلَمْ أَنَّ الْحَسَدَ إِنَّمَا يَكْثُرُ بَيْنَ قَوْمٍ تَكْثُرُ فِيهِمُ الْأَسْبَابُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، إِذِ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَجُوزُ أَنْ يَحْسُدَ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ قَوْلِ الْمُتَكَبِّرِ وَلِأَنَّهُ يَتَكَبَّرُ وَلِأَنَّهُ عَدُوٌّ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ إِنَّمَا تَكْثُرُ بَيْنَ قَوْمٍ تَجْمَعُهُمْ رَوَابِطُ يَجْتَمِعُونَ بِسَبَبِهَا فِي مَجَالِسِ الْمُخَاطَبَاتِ وَيَتَوَارَدُونَ عَلَى الْأَغْرَاضِ وَالْمُنَازَعَةُ مَظِنَّةُ الْمُنَافَرَةِ، وَالْمُنَافَرَةُ مُؤَدِّيَةٌ إِلَى الْحَسَدِ فَحَيْثُ لَا مُخَالَطَةَ فَلَيْسَ هُنَاكَ مُحَاسَدَةٌ، وَلَمَّا لَمْ تُوجَدِ الرَّابِطَةُ بَيْنَ شَخْصَيْنِ فِي بَلَدَيْنِ لَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُحَاسَدَةٌ، فَلِذَلِكَ تَرَى الْعَالِمَ يَحْسُدُ الْعَالِمَ دُونَ الْعَابِدِ وَالْعَابِدَ يَحْسُدُ الْعَابِدَ دُونَ الْعَالِمِ، وَالتَّاجِرَ يَحْسُدُ التَّاجِرَ، بَلِ الْإِسْكَافُ يَحْسُدُ الْإِسْكَافَ وَلَا يَحْسُدُ الْبَزَّازَ، وَيَحْسُدُ الرَّجُلُ أَخَاهُ وَابْنَ عَمِّهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْسُدُ الْأَجَانِبَ وَالْمَرْأَةُ تَحْسُدُ ضَرَّتَهَا وَسُرِّيَّةَ زَوْجِهَا أَكْثَرَ مِمَّا تَحْسُدُ أُمَّ الزَّوْجِ وَابْنَتَهُ، لِأَنَّ مَقْصِدَ الْبَزَّازِ غَيْرُ مَقْصِدِ الْإِسْكَافِ فَلَا يَتَزَاحَمُونَ عَلَى الْمَقَاصِدِ، ثُمَّ مُزَاحَمَةُ الْبَزَّازِ الْمُجَاوِرِ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ مُزَاحَمَةِ الْبَعِيدِ عَنْهُ إِلَى طَرَفِ السُّوقِ وَبِالْجُمْلَةِ فَأَصْلُ الْحَسَدِ الْعَدَاوَةُ وَأَصْلُ الْعَدَاوَةِ التَّزَاحُمُ عَلَى غَرَضٍ وَاحِدٍ وَالْغَرَضُ الْوَاحِدُ لَا يَجْمَعُ مُتَبَاعِدَيْنِ بَلْ لَا يَجْمَعُ إِلَّا مُتَنَاسِبَيْنِ، فَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الْحَسَدُ بَيْنَهُمْ، نَعَمْ مَنِ اشْتَدَّ حِرْصُهُ عَلَى الْجَاهِ الْعَرِيضِ وَالصِّيتِ فِي أَطْرَافِ الْعَالَمِ فَإِنَّهُ يَحْسُدُ كُلَّ مَنْ فِي الْعَالَمِ مِمَّنْ يُشَارِكُهُ فِي الْخَصْلَةِ الَّتِي يَتَفَاخَرُ بِهَا، أَقُولُ: وَالسَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ فِيهِ أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ بِالذَّاتِ وَضِدُّ الْمَحْبُوبِ مَكْرُوهٌ وَمِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الْكَمَالِ التَّفَرُّدُ بِالْكَمَالِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الشَّرِيكُ فِي الْكَمَالِ مُبَغَّضًا لِكَوْنِهِ مُنَازِعًا فِي الْفَرْدَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْكَمَالِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْكَمَالِ لَمَّا امْتَنَعَ حُصُولُهُ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَوَقَعَ الْيَأْسُ عَنْهُ فَاخْتَصَّ الْحَسَدُ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّنْيَا لَا تَفِي بِالْمُتَزَاحِمِينَ، أَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا ضِيقَ فِيهَا، وَإِنَّمَا مِثَالُ الْآخِرَةِ نِعْمَةُ الْعِلْمِ، فَلَا جَرَمَ مَنْ يُحِبُّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةَ صِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ فَلَا يَحْسُدُ غَيْرَهُ إِذَا عَرَفَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَضِيقُ عَلَى الْعَارِفِينَ بَلِ الْمَعْلُومُ الْوَاحِدُ يَعْرِفُهُ أَلْفُ/ أَلْفٍ وَيَفْرَحُ بِمَعْرِفَتِهِ وَيَلْتَذُّ بِهِ وَلَا تَنْقُصُ لَذَّةُ أَحَدٍ بِسَبَبِ غَيْرِهِ، بَلْ يَحْصُلُ بِكَثْرَةِ الْعَارِفِينَ زِيَادَةُ الْأُنْسِ، فَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الدِّينِ مُحَاسَدَةٌ لِأَنَّ مَقْصِدَهُمْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ، وَهِيَ بَحْرٌ وَاسِعٌ لَا ضِيقَ فِيهَا وَغَرَضُهُمُ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا ضِيقَ فِيهَا، نَعَمْ إِذَا قَصَدَ الْعُلَمَاءُ بِالْعِلْمِ الْمَالَ وَالْجَاهَ، تَحَاسَدُوا لِأَنَّ الْمَالَ أَعْيَانٌ إِذَا وَقَعَتْ فِي يَدِ وَاحِدٍ خَلَتْ عَنْهَا يَدُ الْآخَرِ، وَمَعْنَى الْجَاهِ مَلْءُ الْقُلُوبِ، وَمَهْمَا امْتَلَأَ قَلْبُ شَخْصٍ بِتَعْظِيمِ عَالِمٍ انْصَرَفَ عَنْ تَعْظِيمِ الْآخَرِ، أَمَّا إِذَا امْتَلَأَ قَلْبٌ بِالْفَرَحِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ أَنْ يَمْتَلِئَ قَلْبُ غَيْرِهِ وَأَنْ يَفْرَحَ بِهِ فَلِذَلِكَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِعَدَمِ الْحَسَدِ فَقَالَ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الْحِجْرِ: 47] .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي الدَّوَاءِ الْمُزِيلِ لِلْحَسَدِ وَهُوَ أَمْرَانِ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ. أَمَّا الْعِلْمُ فَفِيهِ مَقَامَانِ إِجْمَالِيٌّ وَتَفْصِيلِيٌّ، أَمَّا الْإِجْمَالِيُّ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، لِأَنَّ الْمُمْكِنَ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْوَاجِبِ لَمْ يَقِفْ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّفْرَةِ عَنْهُ، وَإِذَا حَصَلَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ زَالَ الْحَسَدُ. وَأَمَّا التَّفْصِيلِيُّ فَهُوَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْحَسَدَ ضَرَرٌ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عَلَى الْمَحْسُودِ ضَرَرٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، أَمَّا أَنَّهُ ضَرَرٌ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ فَمِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّكَ بِالْحَسَدِ كَرِهْتَ حُكْمَ اللَّهِ وَنَازَعْتَهُ فِي قِسْمَتِهِ الَّتِي قَسَمَهَا لِعِبَادِهِ وَعَدْلِهِ الَّذِي أَقَامَهُ فِي خَلْقِهِ بِخَفِيِّ حِكْمَتِهِ، وَهَذِهِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015