بسم الله الرّحمن الرّحيم
إحدى عشرة آية مكية وَأَنَا عَلَى عَزْمٍ أَنْ أَضُمَّ إِلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا فِيهَا مِنَ اللَّطَائِفِ التِّذْكَارِيَّةِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2)
لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَالضُّحى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالضُّحَى وَقْتُ الضُّحَى وَهُوَ صَدْرُ النَّهَارِ حِينَ تَرْتَفِعُ الشَّمْسُ وَتُلْقِي شُعَاعَهَا وَثَانِيهَا: الضُّحَى هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ جُعِلَ فِي مُقَابَلَةِ اللَّيْلِ كُلِّهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ إِذا سَجى فَذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي سَجى ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ مُتَقَارِبَةٍ: سَكَنَ وَأَظْلَمَ وَغَطَّى أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: سَجَى أَيْ سَكَنَ يُقَالُ: لَيْلَةٌ سَاجِيَةٌ أَيْ سَاكِنَةُ الرِّيحِ، وَعَيْنٌ سَاجِيَةٌ أَيْ فَاتِرَةُ الطَّرْفِ. وَسَجَى الْبَحْرُ إِذَا سَكَنَتْ أَمْوَاجُهُ، وَقَالَ فِي الدُّعَاءِ:
يَا مَالِكَ الْبَحْرِ إِذَا الْبَحْرُ سَجَى وأما الثاني: وهو تفسير سجى بأظلم فَقَالَ الْفَرَّاءُ: سَجَى أَيْ أَظْلَمَ وَرَكَدَ فِي طُولِهِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ تَفْسِيرُ سَجَى بِغَطَّى، فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ سَجَى اللَّيْلُ تَغْطِيَتُهُ النَّهَارَ، مِثْلَ مَا يُسَجَّى الرَّجُلُ بِالثَّوْبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَطَّى الدُّنْيَا بِالظُّلْمَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أُلْبِسَ النَّاسُ ظَلَامَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ غَطَّى كُلَّ شَيْءٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: سَكَنَ بِالنَّاسِ وَلِسُكُونِهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: سُكُونُ النَّاسِ فَنُسِبَ إِلَيْهِ كَمَا يُقَالُ لَيْلٌ نَائِمٌ وَنَهَارٌ صَائِمٌ وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ سُكُونَهُ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِقْرَارِ ظَلَامِهِ واستوائه فلا يزداد بعد ذلك، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى فِي السُّورَةِ الْمَاضِيَةِ قَدَّمَ ذِكْرَ اللَّيْلِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ أَخَّرَهُ؟ قُلْنَا:
فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَنْتَظِمُ مَصَالِحُ الْمُكَلَّفِينَ، وَاللَّيْلُ لَهُ فَضِيلَةُ السَّبْقِ لِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] وَلِلنَّهَارِ فَضِيلَةُ النُّورِ، بَلِ اللَّيْلُ كَالدُّنْيَا وَالنَّهَارُ كَالْآخِرَةِ، فَلَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَضِيلَةٌ لَيْسَتْ لِلْآخَرِ، لَا جَرَمَ قُدِّمَ هَذَا عَلَى ذَاكَ تَارَةً وَذَاكَ، عَلَى هَذَا أُخْرَى، / وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ في