مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13)
وَفِيهِ قولان: الأول: أن الرجاء هاهنا بِمَعْنَى الْخَوْفِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيُّ:
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا
وَالْوَقَارُ الْعَظَمَةُ وَالتَّوْقِيرُ التعظيم، ومنه قوله تعالى: وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9] بِمَعْنَى مَا بَالُكُمْ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الرَّجَاءَ ضِدُّ الْخَوْفِ فِي اللُّغَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الظَّاهِرَةِ، فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ لَفْظَةَ الرَّجَاءِ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعَةٌ بِمَعْنَى الْخَوْفِ لَكَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِلرِّوَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْآحَادِ عَلَى الرِّوَايَةِ/ الْمَنْقُولَةِ بِالتَّوَاتُرِ وَهَذَا يُفْضِي إِلَى الْقَدْحِ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ لَا لَفْظَ فِيهِ إِلَّا وَيُمْكِنُ جَعْلُ نَفْيِهِ إِثْبَاتًا وَإِثْبَاتِهِ نَفْيًا بِهَذَا الطَّرِيقِ الْوَجْهُ الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: مَا لَكُمْ لَا تَأْمَلُونَ لِلَّهِ تَوْقِيرًا أَيْ تَعْظِيمًا، وَالْمَعْنَى مالكم لا تكونوا عَلَى حَالٍ تَأْمَلُونَ فِيهَا تَعْظِيمَ اللَّهِ إِيَّاكُمْ ولِلَّهِ بَيَانٌ لِلْمُوَقَّرِ، وَلَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِلَةً لِلْوَقَارِ.
[سورة نوح (71) : آية 14]
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: مَا لَكَمَ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَالْحَالُ هَذِهِ وَهِيَ حَالٌ مُوجِبَةٌ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً أَيْ تَارَاتٍ خَلَقَكُمْ أَوَّلًا تُرَابًا، ثُمَّ خَلَقَكُمْ نُطَفًا، ثُمَّ خَلَقَكُمْ عَلَقًا، ثُمَّ خَلَقَكُمْ مُضَغًا، ثُمَّ خَلَقَكُمْ عِظَامًا وَلَحْمًا، ثُمَّ أَنْشَأَكُمْ خَلْقًا آخَرَ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَوْقِيرِهِ وَتَرْكِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ إِذَا وَقَّرْتُمْ نُوحًا وَتَرَكْتُمُ الِاسْتِخْفَافَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ اللَّهِ، فَمَا لَكَمَ لَا تَرْجُونَ وَقَارًا وَتَأْتُونَ بِهِ لِأَجْلِ اللَّهِ وَلِأَجْلِ أَمْرِهِ وَطَاعَتِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا يَأْتِي بِهِ الْإِنْسَانُ لِأَجْلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَرْجُو مِنْهُ خَيْرًا وَوَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ الْوَقَارَ وَهُوَ الثَّبَاتُ مِنْ وَقَرَ إِذَا ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا لَكُمْ وَعِنْدَ هَذَا تَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى الإنكار لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [الجن: 13] أَيْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ ثَبَاتًا وَبَقَاءً، فَإِنَّكُمْ لَوْ رَجَوْتُمْ ثَبَاتَهُ وَبَقَاءَهُ لَخِفْتُمُوهُ، وَلَمَا أَقْدَمْتُمْ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِرُسُلِهِ وَأَوَامِرِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَرْجُونَ أَيْ تَعْتَقِدُونَ لِأَنَّ الرَّاجِيَ لِلشَّيْءِ مُعْتَقِدٌ له.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ اسْتَدَلَّ عَلَى التَّوْحِيدِ بِوُجُوهٍ مِنَ الدَّلَائِلِ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ اللَّيْثُ: الطَّوْرَةُ التَّارَةُ يَعْنِي حَالًا بَعْدَ حَالٍ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً إِلَى آخِرِ التَّارَاتِ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الطَّوْرُ الْحَالُ، وَالْمَعْنَى خَلَقَكُمْ أَصْنَافًا مُخْتَلِفِينَ لَا يُشْبِهُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا الدَّلِيلَ مِنَ الْأَنْفُسِ عَلَى التَّوْحِيدِ، أتبعه بذكر الدليل التَّوْحِيدِ مِنَ الْآفَاقِ عَلَى الْعَادَةِ الْمَعْهُودَةِ فِي كل القرآن..
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16)
الدليل الثاني: على التوحيد قوله تعالى: