جزية يؤدونها عن رؤوسهم، أَوْ مَالٍ غَيْرِ الْجِزْيَةِ يَفْتَدُونَ بِهِ مِنْ سَفْكِ دِمَائِهِمْ، كَمَا فَعَلَهُ بَنُو النَّضِيرِ حِينَ صَالَحُوا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ حِمْلَ بِعِيرٍ مِمَّا شَاءُوا سِوَى السِّلَاحِ، وَيَتْرُكُوا الْبَاقِيَ، فَهَذَا الْمَالُ هُوَ الْفَيْءُ، وَهُوَ مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ رَدَّهُ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلُهُ: مِنْهُمْ أَيْ مِنْ يَهُودِ بَنِي النضير، قوله: فَما أَوْجَفْتُمْ يُقَالُ: وَجَفَ الْفَرَسُ وَالْبَعِيرُ يَجِفُ وَجْفًا وَوَجِيفًا، وَهُوَ سُرْعَةُ السَّيْرِ، وَأَوْجَفَهُ صَاحِبُهُ، إِذَا حَمَلَهُ عَلَى السَّيْرِ السَّرِيعِ، وَقَوْلُهُ: عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا أَفَاءَ اللَّه، وَقَوْلُهُ: مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ الرِّكَابُ مَا يُرْكَبُ مِنَ الْإِبِلِ، وَاحِدَتُهَا رَاحِلَةٌ، وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَالْعَرَبُ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الرَّاكِبِ إِلَّا عَلَى رَاكِبِ الْبَعِيرِ، وَيُسَمُّونَ رَاكِبَ الْفَرَسِ فَارِسًا، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُقَسِّمَ الْفَيْءَ بَيْنَهُمْ كَمَا قَسَّمَ الْغَنِيمَةَ بَيْنَهُمْ، فَذَكَرَ اللَّه الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ مَا أَتْعَبْتُمْ أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم عليه الْخَيْلَ وَالرِّكَابَ بِخِلَافِ الْفَيْءِ فَإِنَّكُمْ مَا تَحَمَّلْتُمْ فِي تَحْصِيلِهِ تَعَبًا، فَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِ مُفَوَّضًا إلى الرسول يضعه حيث يشاء.
ثم هاهنا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ أُخِذَتْ بَعْدَ الْقِتَالِ لِأَنَّهُمْ حُوصِرُوا أَيَّامًا، وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا ثُمَّ صَالَحُوا عَلَى الْجَلَاءِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ لَا مِنْ جُمْلَةِ الْفَيْءِ، وَلِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هاهنا وجهين الأول: أن هذا الْآيَةَ مَا نَزَلَتْ فِي قُرَى بَنِي النَّضِيرِ لِأَنَّهُمْ أَوْجَفُوا عَلَيْهِمْ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ وَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ بَلْ هُوَ فِي فَدَكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ فَدَكَ انْجَلَوْا عَنْهُ فَصَارَتْ تِلْكَ الْقُرَى وَالْأَمْوَالُ فِي يَدِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَأْخُذُ مِنْ غَلَّةِ فَدَكَ نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ مَنْ يَعُولُهُ، وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، فَلَمَّا مَاتَ ادَّعَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام أنه كان ينحلها فدكا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنْتِ أَعَزُّ النَّاسِ عَلَيَّ فَقْرًا، وَأَحَبُّهُمْ إِلَيَّ غِنًى، لَكِنِّي لَا أَعْرِفُ صِحَّةَ قَوْلِكِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ أَحْكُمَ بِذَلِكَ، فَشَهِدَ لَهَا أَمُّ أَيْمَنَ وَمَوْلًى لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السلام، فطلب منها أبن بَكْرٍ الشَّاهِدَ الَّذِي يَجُوزُ قَبُولُ شَهَادَتُهُ فِي الشَّرْعِ فَلَمْ يَكُنْ، فَأَجْرَى أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ عَلَى مَا كَانَ يُجْرِيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى مَنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ الرَّسُولُ، وَيَجْعَلُ مَا يَبْقَى فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ جَعَلَهُ فِي يَدِ عَلِيٍّ لِيُجْرِيَهُ عَلَى هَذَا الْمَجْرَى، وَرَدَّ ذَلِكَ فِي آخِرِ عَهْدِ عُمَرَ إِلَى عُمَرَ، وَقَالَ: إِنَّ بِنَا غِنًى وَبِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إِلَيْهِ، وَكَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يُجْرِيهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ صَارَ. إِلَى عَلِيٍّ فَكَانَ يُجْرِيهِ هَذَا الْمَجْرَى/ فَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ وقراهم، وليس لمسلمين يَوْمَئِذٍ كَثِيرُ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَلَمْ يَقْطَعُوا إِلَيْهَا مَسَافَةً كَثِيرَةً، وَإِنَّمَا كَانُوا عَلَى مِيلَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ فَمَشَوْا إِلَيْهَا مَشْيًا، وَلَمْ يَرْكَبْ إِلَّا رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رَاكِبَ جَمَلٍ، فَلَمَّا كَانَتِ الْمُقَاتَلَةُ قَلِيلَةً وَالْخَيْلُ وَالرَّكْبُ غَيْرَ حَاصِلٍ، أَجْرَاهُ اللَّه تَعَالَى مَجْرَى مَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْمُقَاتَلَةُ أَصْلًا فَخَصَّ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ
رُوِيَ أَنَّهُ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ كَانَتْ بِهِمْ حَاجَةٌ وَهُمْ أَبُو دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ الْفَيْءِ فَقَالَ:
مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)