وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْقُرْبِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ لَكِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: لَفِي سِجِّينٍ [الْمُطَفِّفِينَ: 7] فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الْإِنْسَانِ: 21] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْبُ الَّذِي يَكُونُ لِجُلَسَاءِ الْمَلِكِ عِنْدَ الْمَلِكِ، وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ فِي تِلْكَ السُّورَةِ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 21] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْبُ الَّذِي يَكُونُ لِلْكِتَابِ وَالْحِسَابِ عِنْدَ الْمَلِكِ لِمَا أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا يَحْسُدُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَإِنَّ الْكَاتِبَ إِنْ كَانَ قُرْبُهُ مِنَ الْمَلِكِ بِسَبَبِ الْخِدْمَةِ لَا يَخْتَارُ قُرْبَ الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ، بَلْ قُرْبَ النَّدِيمِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَيْنَ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْقُرْبِ وَبَيْنَ الْقُرْبِ الَّذِي بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَخْتَارَ غَيْرَهُ، وَفِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ قَوْلُهُ: لَمَحْجُوبُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ غَيْرُ مَحْجُوبِينَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْظَرَ إِلَى اللَّهِ قَوْلُنَا: جُلَسَاءُ الْمَلِكِ فِي ظَاهِرِ النَّظَرِ الَّذِي يَقْتَضِي فِي نَظَرِ الْقَوْمِ الْجِهَةَ وَإِلَى الْقُرْبِ الَّذِي يَفْهَمُ الْعَامِّيُّ مِنْهُ الْمَكَانَ إِلَّا بنظر العلماء الأخبار الحكماء الأخبار.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ عَمَلُهُمْ وَحَاصِلٌ بفعلهم، نقول: لا نزاع في أن العلم فِي الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ وُضِعَ لِلْفِعْلِ وَالْمَجْنُونَ لِلَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ وَالْعَاقِلَ لِلَّذِي بَلَغَ الْكَمَالَ فِيهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا بِوَضْعِ اللُّغَةِ لِمَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَرَى/ الْحَرَكَةَ مِنَ الْجِسْمَيْنِ فَيَقُولُ: تَحَرَّكَ وَسَكَنَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، كَمَا يَقُولُ: تَدُورُ الرَّحَا وَيَصْعَدُ الْحَجَرُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا الْفِعْلُ فِي الْمَحَلِّ الْمَرْئِيِّ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ وَضْعِ اللُّغَةِ. ثم قال تعالى:

[سورة الواقعة (56) : الآيات 25 الى 26]

لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ ذِكْرِهِ عَنِ الْجَزَاءِ مَعَ أَنَّهُ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ؟ نَقُولُ فِيهِ لَطَائِفُ الْأُولَى:

أَنَّ هَذَا مِنْ أَتَمِّ النِّعَمِ، فَجَعَلَهَا مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ الَّتِي مِنْهَا الرُّؤْيَةُ عِنْدَ الْبَعْضِ وَلَا مُقَابِلَ لَهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا مِنْ أَتَمِّ النِّعَمِ، لِأَنَّهَا نِعْمَةُ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا سَنُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: سَلاماً هُوَ مَا قَالَ فِي سُورَةِ يس: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] فَلَمْ يَذْكُرْهَا فِيمَا جَعَلَهُ جَزَاءً، وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا:

أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة: 11] لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تعالى بدأ بأتم النعم وهي نعمة الرؤيا، وَهِيَ الرُّؤْيَةُ بِالنَّظَرِ كَمَا مَرَّ وَخَتَمَ بِمِثْلِهَا، وَهِيَ نِعْمَةُ الْمُخَاطَبَةِ الثَّالِثَةُ: هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ النِّعَمَ الْفِعْلِيَّةَ وَقَابَلَهَا بِأَعْمَالِهِمْ حَيْثُ قال: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة: 24] ذَكَرَ النِّعَمَ الْقَوْلِيَّةَ فِي مُقَابَلَةِ أَذْكَارِهِمُ الْحَسَنَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي فِي مُقَابَلَةِ أَعْمَالِ قُلُوبِهِمْ مِنْ إِخْلَاصِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الْقَلْبِيَّ لَمْ يُرَ وَلَمْ يُسْمَعْ، فَمَا يُعْطِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النِّعْمَةِ تَكُونُ نِعْمَةً لَمْ تَرَهَا عَيْنٌ وَلَا سَمِعَتْهَا أُذُنٌ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ

بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها: «مالا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَلَا خَطَرَ»

إِشَارَةٌ إِلَى الزِّيَادَةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى النِّعْمَةِ الْقَوْلِيَّةِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمُ الطَّيِّبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا إِلَى قَوْلِهِ: نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فُصِّلَتْ: 30- 32] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً نَفْيٌ لِلْمَكْرُوهِ لِمَا أَنَّ اللَّغْوَ كَلَامٌ غَيْرُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015