بسم الله الرّحمن الرّحيم
ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ذلِكَ في وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَظْهَرُهَا أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الظَّنِّ، أَيْ غَايَةُ مَا يَبْلُغُونَ بِهِ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِالظَّنِّ وَثَانِيهَا: إِيثَارُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، أَيْ ذَلِكَ الْإِيثَارُ غَايَةُ مَا بَلَغُوهُ مِنَ الْعِلْمِ ثَالِثُهَا: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى [النَّجْمِ: 29] وَذَلِكَ الْإِعْرَاضُ غَايَةُ مَا بَلَغُوهُ مِنَ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ عَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُومِ، وَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلتَّعْرِيفِ، وَالْعِلْمُ بِالْمَعْلُومِ هُوَ مَا فِي الْقُرْآنِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا وَرَدَ بَعْضُهُمْ تَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ فَبَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى، وَبَعْضُهُمْ قَبِلَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُعْجِزَةٌ، وَاتَّبَعَ الرَّسُولَ فَبَلَغَ الدَّرَجَةَ الْوُسْطَى، وَبَعْضُهُمْ تَوَقَّفَ فِيهِ كَأَبِي طَالِبٍ، وَذَلِكَ أَدْنَى الْمَرَاتِبِ، وَبَعْضُهُمْ رَدَّهُ وَعَابَهُ، فَالْأَوَّلُونَ لَمْ يَجُزِ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ، وَالْآخَرُونَ وَجَبَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ، وَكَانَ مَوْضِعُ بُلُوغِهِ مِنَ الْعِلْمِ أَنَّهُ قَطَعَ الْكَلَامَ مَعَهُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ سُؤَالٌ وَهُوَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ غَايَتَهُمْ ذلك: ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا عِلْمَ لَهُ، وَالصَّبِيُّ لَا يُؤْمَرُ بِمَا فَوْقَ احْتِمَالِهِ فَكَيْفَ يُعَاقِبُهُمُ اللَّهُ؟.
نَقُولُ ذُكِرَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَكَأَنَّ عَدَمَ عِلْمِهِمْ لِعَدَمِ قَبُولِهِمُ الْعِلْمَ، وَإِنَّمَا قَدَّرَ اللَّهُ تَوَلِّيَهُمْ لِيُضَافَ الْجَهْلُ إِلَى ذَلِكَ فَيُحَقِّقَ الْعِقَابَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ كَلَامَيْنِ، وَالْمُتَّصِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ... إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [النَّجْمِ: 29، 30] وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا الْمَقْصُودُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، يَكُونُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَعْرِضْ عَنْهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ غَايَتُهُمْ، وَلَا يُوجَدُ وَرَاءَ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وَكَأَنَّ قَوْلَهُ: عَنْ مَنْ تَوَلَّى إِشَارَةٌ إِلَى قَطْعِ عُذْرِهِمْ بِسَبَبِ الْجَهْلِ، فَإِنَّ الْجَهْلَ كَانَ بِالتَّوَلِّي وَإِيثَارِ الْعَاجِلِ.
ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى وَفِي الْمُنَاسَبَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَعْرِضْ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ الْمَيْلِ إِلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ وَكَانَ رُبَّمَا هَجَسَ فِي خَاطِرِهِ، أَنَّ فِي الذِّكْرَى بَعْدُ مَنْفَعَةٌ، وَرُبَّمَا يُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِينَ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ علم أنه يؤمن بمجرد الدعاء أَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُ فِيهِمْ أَنْ يَقَعَ السَّيْفُ وَالْقِتَالُ فَأَعْرِضْ عَنِ الْجِدَالِ وَأَقْبِلْ عَلَى/ الْقِتَالِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: بِمَنِ اهْتَدى أَيْ عَلِمَ فِي الْأَزَلِ، مَنْ ضَلَّ فِي تَقْدِيرِهِ وَمَنِ اهْتَدَى، فَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْأَمْرَانِ، وَلَا يَأْسَ فِي الْإِعْرَاضِ وَيُعَدُّ فِي الْعُرْفِ مَصْلَحَةً ثَانِيهَا: هُوَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سَبَأٍ: 24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا