الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مُحَمَّدًا، فَلَوْ قَالَ مَا زَاغَ قَلْبُهُ كَانَ يَحْصُلُ بِهِ فَائِدَةُ قَوْلِهِ مَا زاغَ الْبَصَرُ؟
نَقُولُ لَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَحْضُرُ عِنْدَ مَلِكٍ عَظِيمٍ يَرَى مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَهَابُهُ وَيَرْتَجِفُ إِظْهَارًا لِعَظَمَتِهِ مَعَ أَنَّ قَلْبَهُ قَوِيٌّ، فَإِذَا قَالَ: مَا زاغَ الْبَصَرُ يَحْصُلُ مِنْهُ فَائِدَةُ أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ عَظِيمًا، وَلَمْ يَزِغْ بَصَرُهُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ صَاحِبِ الْبَصَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَما طَغى عَطْفُ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ أُخْرَى، أَوْ عَطْفُ جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، مِثَالُ الْمُسْتَقِلَّةِ: خَرَجَ زَيْدٌ وَدَخَلَ عَمْرٌو، وَمِثَالُ مقدرة: خَرَجَ زَيْدٌ وَدَخَلَ، فَنَقُولُ الْوَجْهَانِ جَائِزَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ:
فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ عِنْدَ ظُهُورِ النُّورِ: مَا زَاغَ بَصَرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا طَغَى مُحَمَّدٌ بِسَبَبِ الِالْتِفَاتِ، وَلَوِ الْتَفَتَ لَكَانَ طَاغِيًا وَأَمَّا الثَّانِي: فَظَاهِرٌ عَلَى الْأَوْجُهِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: غَشِيَ السِّدْرَةَ جَرَادٌ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَما طَغى أَيْ مَا الْتَفَتَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الْجَرَادِ، وَلَا إِلَى غَيْرِ الْجَرَادِ سِوَى اللَّهِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا غَشِيَهَا نُورٌ، فَقَوْلُهُ مَا زاغَ أَيْ مَا مَالَ عَنِ الْأَنْوَارِ وَما طَغى أَيْ مَا طَلَبَ شَيْئًا وَرَاءَهَا وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:
مَا زَاغَ وَمَا طَغَى، وَلَمْ يَقُلْ: مَا مَالَ وَمَا جَاوَزَ، لِأَنَّ الْمَيْلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَالْمُجَاوَزَةَ مَذْمُومَانِ، فَاسْتَعْمَلَ الزَّيْغَ وَالطُّغْيَانَ فِيهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِوُصُولِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سِدْرَةِ الْيَقِينِ الَّذِي لَا يَقِينَ فَوْقَهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ بَصَرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا زَاغَ أَيْ مَا مَالَ عَنِ الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَرَ الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى عَيْنِ الشَّمْسِ مَثَلًا، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى شَيْءٍ أَبْيَضَ، فَإِنَّهُ يَرَاهُ أَصْفَرَ أَوْ أَخْضَرَ يَزِيغُ بَصَرُهُ عَنْ جَادَّةِ الْأَبْصَارِ وَما طَغى مَا تَخَيَّلَ المعدوم موجودا فرأى المعدوم مجاوزا الحد. / ثم قال تعالى:
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ آيَاتِ اللَّهِ وَلَمْ يَرَ اللَّهَ، وَفِيهِ خِلَافٌ وَوَجْهُهُ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَتَمَ قِصَّةَ الْمِعْرَاجِ هَاهُنَا بِرُؤْيَةِ الْآيَاتِ، وَقَالَ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا إِلَى أَنْ قَالَ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الْإِسْرَاءِ: 1] وَلَوْ كَانَ رَأَى رَبَّهُ لَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ مَا يُمْكِنُ، فَكَانَتِ الْآيَةُ الرُّؤْيَةَ، وَكَانَ أَكْبَرُ شَيْءٍ هُوَ الرُّؤْيَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ مَالٌ يُقَالُ لَهُ: سَافِرْ لِتَرْبَحْ، وَلَا يُقَالُ: سَافِرْ لِتَتَفَرَّجَ، لِمَا أَنَّ الرِّبْحَ أَعْظَمُ مِنَ التَّفَرُّجِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى وَهِيَ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَتِهِ، فَهَلْ هُوَ عَلَى مَا قَالَهُ؟ نَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ غَيْرُ تِلْكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا، لَكِنْ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً أَعْظَمُ مِنْهُ، وَالْكُبْرَى تَأْنِيثُ الْأَكْبَرِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ آيَاتٍ هُنَّ أَكْبَرُ الْآيَاتِ، فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ [الْمُدَّثِّرِ: 35] مَعَ أَنَّ أَكْبَرَ مِنْ سَقَرَ عَجَائِبُ اللَّهِ، فَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الْكُبْرَى تَكُونُ جِبْرِيلَ وَمَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لِلَّهِ آيَاتٌ أَكْبَرُ مِنْهُ نَقُولُ سَقَرُ إِحْدَى الْكُبَرِ أَيْ إِحْدَى الدَّوَاهِي الْكُبَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الدَّوَاهِي سَقَرَ عَظِيمَةً كَبِيرَةً، وَأَمَّا آيَاتُ اللَّهِ فَلَيْسَ جِبْرِيلُ أَكْبَرَهَا وَلِأَنَّ سَقَرَ فِي نَفْسِهَا أَعْظَمُ وَأَعْجَبُ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِفَتِهَا بِالْكِبَرِ صِفَتُهَا بِالْكُبْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (الْكُبْرَى) صِفَةُ مَاذَا؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: صِفَةُ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيات