بِإِحْدَى الْيَدَيْنِ لَا تَعُمُّهُمَا وَالْآفَةُ النَّازِلَةُ بِالْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ تَعُمُّ الْعَيْنَيْنِ لِأَنَّ مَنْبَعَ النُّورِ وَاحِدٌ وَهُمَا مُتَجَاذِبَانِ وَالْوُجُودُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْأَعْمَى كَثِيرُ الْوُجُودِ وَمَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ نَادِرٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدَّمَ الْآفَةَ فِي الْآلَةِ عَلَى الْآفَةِ فِي الْقُوَّةِ، لِأَنَّ الْآفَةَ فِي الْقُوَّةِ تَزُولُ وَتَطْرَأُ، والآفة في الآلة إذ طَرَأَتْ لَا تَزُولُ، فَإِنَّ الْأَعْمَى لَا يَعُودُ بَصِيرًا فَالْعُذْرُ فِي مَحَلِّ الْآلَةِ أَتَمُّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدَّمَ الْأَعْمَى عَلَى الْأَعْرَجِ، لِأَنَّ عُذْرَ الْأَعْمَى يَسْتَمِرُّ وَلَوْ حَضَرَ الْقِتَالَ، وَالْأَعْرَجُ إِنْ حَضَرَ رَاكِبًا أَوْ بِطْرِيقٍ آخَرَ يَقْدِرُ عَلَى القتال بالرمي وغيره.
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)
اعْلَمْ أَنَّ طاعة كل واحد منهما طاعة الآخر فَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بَيَانًا لِطَاعَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ قَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ، كَانَ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ: نَحْنُ لَا نَرَى اللَّهَ وَلَا نَسْمَعُ كَلَامَهُ، فَمِنْ أَيْنَ نَعْلَمُ أَمْرَهُ حَتَّى نُطِيعَهُ؟ فَقَالَ طَاعَتُهُ فِي طَاعَةِ رَسُولِهِ وَكَلَامُهُ يُسْمَعُ مِنْ رَسُولِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَتَوَلَّ أَيْ بِقَلْبِهِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُخَلَّفِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] عَادَ إِلَى بَيَانِ حَالِهِمْ وَقَالَ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الصِّدْقِ كَمَا عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْمَرَضِ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ حَتَّى بَايَعُوا عَلَى الْمَوْتِ، وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ [الفتح: 17] فَجَعَلَ طَاعَةَ اللَّهِ وَالرَّسُولِ عَلَامَةً لِإِدْخَالِ اللَّهِ الْجَنَّةَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وُجِدَتْ مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، أَمَّا طَاعَةُ اللَّهِ فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمَّا طَاعَةُ الرَّسُولِ فَبِقَوْلِهِ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ بَقِيَ الْمَوْعُودُ بِهِ وَهُوَ إِدْخَالُ الْجَنَّةِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الرِّضَا يَكُونُ مَعَهُ إِدْخَالُ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 22] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَعِلْمُ اللَّهِ قَبْلَ الرِّضَا لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الصِّدْقِ فَرَضِيَ عَنْهُمْ فَكَيْفَ يُفْهَمُ التَّعْقِيبُ فِي الْعِلْمِ؟ نَقُولُ قَوْلُهُ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فَرِحْتُ أَمْسِ إِذْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَقَامَ إِلَيَّ، أَوْ إِذْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَكْرَمَنِي، فيكون الفرح بعد الإكرام ترتيبا كذلك، هاهنا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الصِّدْقِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الرِّضَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ فَحَسْبُ، بَلْ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ الَّتِي كَانَ مَعَهَا عِلْمُ اللَّهِ بِصِدْقِهِمْ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ/ لِلتَّعْقِيبِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فَإِنَّهُ تَعَالَى رَضِيَ عَنْهُمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَفِي عَلِمَ بَيَانُ وَصْفِ الْمُبَايِعَةِ بِكَوْنِهَا مُعَقَّبَةً بِالْعِلْمِ بِالصِّدْقِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ وَهَذَا تَوْفِيقٌ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا لِمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَعَانِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها
مَغَانِمُهَا وَقِيلَ مَغَانِمُ هَجَرَ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً كَامِلَ الْقُدْرَةِ غَنِيًّا عَنْ إعانتكم إياه