وَكَمَا أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْيَقَظَةَ وَكَذَلِكَ الْمَوْتَ وَالنَّوْمَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِيجَادِهِ فَكَذَلِكَ الْهِدَايَةَ وَالضَّلَالَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ عَرَفَ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ فَقَدْ عَرَفَ سِرَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقَدَرِ، وَمَنْ عَرَفَ سِرَّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ، فَيَصِيرُ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ سَبَبًا لِزَوَالِ ذَلِكَ الْحُزْنِ عَنْ قَلْبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا وَجْهُ النَّظْمِ فِي الْآيَةِ، وَقِيلَ نَظْمُ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُجَّةً أُخْرَى فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُ الْإِلَهُ الْعَالِمُ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ بِالْعِبَادَةِ أَحَقُّ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ النَّوْمِ إِلَّا أَنَّهُ يُمْسِكُ الْأَنْفُسَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى وَهِيَ النَّائِمَةُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ إِلَى وَقْتٍ ضَرَبَهُ لِمَوْتِهَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الَّتِي يَتَوَفَّاهَا عِنْدَ الْمَوْتِ يُمْسِكُهَا وَلَا يَرُدُّهَا إِلَى الْبَدَنِ وَقَوْلُهُ: وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يَعْنِي أَنَّ النَّفْسَ الَّتِي يَتَوَفَّاهَا عِنْدَ النَّوْمِ يَرُدُّهَا إِلَى الْبَدَنِ عِنْدَ الْيَقَظَةِ وَتَبْقَى هَذِهِ الْحَالَةُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَذَلِكَ الْأَجَلُ هُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ فَهَذَا تَفْسِيرُ لَفْظِ الْآيَةِ وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِلْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَزِيدِ بَيَانٍ، فَنَقُولُ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ جَوْهَرٍ مُشْرِقٍ رُوحَانِيٍّ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْبَدَنِ حَصَلَ ضَوْؤُهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَهُوَ الْحَيَاةُ، فَنَقُولُ إِنَّهُ فِي وَقْتِ الْمَوْتِ يَنْقَطِعُ تَعَلُّقُهُ عَنْ ظَاهِرِ هَذَا الْبَدَنِ وَعَنْ بَاطِنِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَوْتُ، وَأَمَّا فِي وَقْتِ النَّوْمِ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ ضَوْؤُهُ عَنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَلَا يَنْقَطِعُ ضَوْؤُهُ عَنْ بَاطِنِ الْبَدَنِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْتَ وَالنَّوْمَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إِلَّا أَنَّ الْمَوْتَ انْقِطَاعٌ تَامٌّ كَامِلٌ وَالنَّوْمُ انْقِطَاعٌ نَاقِصٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْقَادِرَ الْعَالِمَ الْحَكِيمَ دَبَّرَ تَعَلُّقَ جَوْهَرِ النَّفْسِ بِالْبَدَنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَقَعَ ضَوْءُ النَّفْسِ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَذَلِكَ الْيَقَظَةُ وَثَانِيهَا: أَنْ يَرْتَفِعَ ضَوْءُ النَّفْسِ عَنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَاطِنِهِ وَذَلِكَ هُوَ النَّوْمُ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَرْتَفِعَ ضَوْءُ النَّفْسِ عَنِ الْبَدَنِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ الْمَوْتُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْتَ وَالنَّوْمَ يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَوَفِّيًا لِلنَّفْسِ، ثُمَّ يَمْتَازُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِخَوَاصَّ مُعَيَّنَةٍ فِي صِفَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، وَمِثْلُ هَذَا التَّدْبِيرِ الْعَجِيبِ لَا يُمْكِنُ صُدُورُهُ إِلَّا عَنِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا أَنَّ الدَّلِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْبُدَ إِلَهًا مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ وَبِهَذِهِ الْحِكْمَةِ/ وَأَنْ لَا يَعْبُدَ الْأَوْثَانَ الَّتِي هِيَ جَمَادَاتٌ لَا شُعُورَ لَهَا وَلَا إِدْرَاكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ أَوْرَدُوا عَلَى هَذَا الْكَلَامِ سُؤَالًا، فَقَالُوا نَحْنُ لَا نَعْبُدُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لِاعْتِقَادِ أَنَّهَا آلِهَةٌ تَضُرُّ وَتَنْفَعُ وَإِنَّمَا نَعْبُدُهَا لِأَجْلِ أَنَّهَا تَمَاثِيلُ لِأَشْخَاصٍ كَانُوا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَنَحْنُ نَعْبُدُهَا لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرَ أُولَئِكَ الْأَكَابِرُ شُفَعَاءَ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ قَالَ: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ، قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ إِمَّا أَنْ يَطْمَعُوا بِتِلْكَ الشَّفَاعَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ أَوْ مِنْ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ الَّذِينَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ تَمَاثِيلَ لَهَا وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ وَهِيَ الْأَصْنَامُ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا تَعْقِلُ شيئا فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ شَيْئًا وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، فَيَكُونُ الشَّفِيعُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهَ الَّذِي يَأْذَنُ فِي تِلْكَ الشَّفَاعَةِ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَتِهِ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا مُلْكَ لِأَحَدٍ غَيْرُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَسَّكَ فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً وَهَذَا ضعيف لأنا