الْأَوَّلُ: قَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الدُّحُورِ فِي سُورَةِ الأعراف عند قوله: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً [الْأَعْرَافِ:
18] قَالَ الْمُبَرِّدُ الدُّحُورُ أَشَدُّ الصِّغَارِ وَالذُّلِّ وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ دَحَرْتُهُ دَحْرًا وَدُحُورًا أَيْ دَفَعْتُهُ وَطَرَدْتُهُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: دُحُوراً وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ انْتُصِبَ بِالْمَصْدَرِ عَلَى مَعْنَى يُدْحَرُونَ دُحُورًا، وَدَلَّ عَلَى الْفِعْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُقْذَفُونَ الثَّانِي: التَّقْدِيرُ وَيُقْذَفُونَ لِلدُّحُورِ ثُمَّ حَذَفَ اللَّامَ الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ دُحُورًا مَطْرُودِينَ، فَعَلَى هَذَا هُوَ حَالٌ سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْحُضُورِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَرَأَ أَبُو عبد الرحمن السلمي دَحُورًا بِفَتْحِ الدَّالِ قَالَ الْفَرَّاءُ كَأَنَّهُ قَالَ يُقْذَفُونَ يُدْحَرُونَ بِمَا يُدْحَرُ، ثُمَّ قَالَ وَلَسْتُ أَشْتَهِي الْفَتْحَ، لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةٍ لَكَانَ فِيهَا الْبَاءُ كَمَا تَقُولُ يُقْذَفُونَ بِالْحِجَارَةِ وَلَا تَقُولُ يُقْذَفُونَ الْحِجَارَةَ إِلَّا أَنَّهُ جائز في الجملة كما قال الشاعر:
تعال اللحم للأضياف نيئا
أي تعالى بِاللَّحْمِ الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَرْجُومُونَ بِالشُّهُبِ وَهَذَا الْعَذَابُ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ، وَذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الْوَاصِبِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً [النَّحْلِ: 52] قَالُوا كُلُّهُمْ إِنَّهُ الدَّائِمُ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَمَنْ فَسَّرَ الْوَاصِبَ بِالشَّدِيدِ وَالْمُوجِعِ فَهُوَ مَعْنًى وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ ذَكَرْنَا مَعْنَى الْخَطْفِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ قَالَ الزَّجَّاجُ وَهُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ، وَأَصْلُ خَطِفَ اخْتَطَفَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مَنْ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فِي لَا يَسَّمَّعُونَ أَيْ لَا يَسَّمَّعُ الشَّيَاطِينُ إِلَّا الشَّيْطَانُ الَّذِي خَطِفَ الْخَطْفَةَ أَيِ اخْتَلَسَ الْكَلِمَةَ عَلَى/ وَجْهِ الْمُسَارَقَةِ فَأَتْبَعَهُ يَعْنِي لَحِقَهُ وَأَصَابَهُ يُقَالُ تَبِعَهُ وَأَتْبَعَهُ إِذَا مَضَى فِي أَثَرِهِ وَأَتْبَعَهُ إِذَا لَحِقَهُ وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَافِ: 175] وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: شِهابٌ ثاقِبٌ قَالَ الْحَسَنُ ثَاقِبٌ أَيْ مُضِيءٌ وَأَقُولُ سُمِّي ثَاقِبًا لأنه يثقب بِنُورِهِ الْهَوَاءَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ [الطَّارِقِ: 3] قَالَ إِنَّهُ رَجُلٌ «1» سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَثْقُبُ بِنُورِهِ سَمْكَ سَبْعِ سموات والله أعلم.
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ النَّظْمِ اعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَقْصَى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ إِثْبَاتُ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ الْإِلَهِيَّاتُ وَالْمَعَادُ وَالنُّبُوَّةُ وَإِثْبَاتُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِإِثْبَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَيَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وهو خلق السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَخَلْقُ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، فَلَمَّا أَحْكَمَ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ فَرَّعَ عَلَيْهَا إِثْبَاتَ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْقِيَامَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَعَلَّقُ بِطَرَفَيْنِ أَوَّلُهُمَا إِثْبَاتُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ وَثَانِيهِمَا إِثْبَاتُ الْوُقُوعِ أَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَطْلُوبِ الْأَوَّلِ فَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى الشَّيْءِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يقال إنه قدر على ما