فَيَدْمَغُهُ

كَانَ يَقَعُ لِمُتَوَهِّمٍ أَنَّ الْبَاطِلَ كَانَ فورد عليه الحق/ فأبطله ودمغه، فقال هاهنا لَيْسَ لِلْبَاطِلِ تَحَقُّقٌ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَيَدْمَغُهُ أَيْ فَيَظْهَرُ بُطْلَانُهُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الْإِسْرَاءِ: 81] يَعْنِي لَيْسَ أَمْرًا مُتَجَدِّدًا زُهُوقُ الْبَاطِلِ، فَقَوْلُهُ: وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ أَيْ لَا يُثْبِتُ فِي الْأَوَّلِ شَيْئًا خِلَافَ الْحَقِّ وَما يُعِيدُ أَيْ لَا يُعِيدُ فِي الْآخِرَةِ شيئا خلاف الحق. ثم قال تعالى:

[سورة سبإ (34) : آية 50]

قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)

هَذَا فِيهِ تَقْرِيرُ الرِّسَالَةِ أَيْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ [الزُّمَرِ:

41] وَقَالَ فِي حق النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي يَعْنِي ضَلَالِي عَلَى نَفْسِي كَضَلَالِكُمْ، وَأَمَّا اهْتِدَائِي فَلَيْسَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَاهْتِدَائِكُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ الْمُبِينِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ سَمِيعٌ أَيْ يَسْمَعُ إِذَا نَادَيْتُهُ وَاسْتَعْدَيْتُ بِهِ عَلَيْكُمْ قَرِيبٌ يَأْتِيكُمْ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، لَيْسَ يَسْمَعُ عَنْ بُعْدٍ وَلَا يلحق الداعي. ثم قال تعالى:

[سورة سبإ (34) : آية 51]

وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51)

لَمَّا قَالَ: سَمِيعٌ قَالَ هُوَ قَرِيبٌ فَإِنْ لَمْ يُعَذِّبْ عَاجِلًا وَلَا يُعِينُ صَاحِبَ الْحَقِّ فِي الْحَالِ فَيَوْمُ الْفَزَعِ آتٍ لَا فَوْتَ، وَإِنَّمَا يَسْتَعْجِلُ مَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ تَرى جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ تَرَى عَجَبًا وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ لَا يَهْرُبُونَ وَإِنَّمَا الْأَخْذُ قَبْلَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْهَرَبِ. ثم قال تعالى:

[سورة سبإ (34) : آية 52]

وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52)

أَيْ بَعْدَ ظُهُورِ الْأَمْرِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ إِيمَانٌ، قَالُوا آمَنَّا وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ أَيْ كَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلَى الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الدُّنْيَا وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ بَعِيدَةٌ، فَإِنْ قيل فكيف قال كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ إِنَّ الْآخِرَةَ مِنَ الدُّنْيَا قَرِيبَةٌ، وَلِهَذَا سَمَّاهَا اللَّهُ السَّاعَةَ وَقَالَ: لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورَى: 17] نَقُولُ الْمَاضِي كَالْأَمْسِ الدَّابِرِ بعد ما يَكُونُ إِذْ لَا وُصُولَ إِلَيْهِ، وَالْمُسْتَقْبَلُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَاضِرِ سِنِينَ فَإِنَّهُ آتٍ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ الدُّنْيَا بَعِيدَةٌ لِمُضِيِّهَا وَفِي الدُّنْيَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَرِيبٌ لِإِتْيَانِهِ وَالتَّنَاوُشُ هُوَ التَّنَاوُلُ عَنْ قُرْبٍ. وَقِيلَ عَنْ بُعْدٍ، وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْفِعْلَ مَأْخُوذًا كَالْجِسْمِ جَعَلَ ظَرْفَ الْفِعْلِ وَهُوَ الزَّمَانُ كَظَرْفِ الْجِسْمِ وَهُوَ الْمَكَانُ فَقَالَ:

مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وَالْمُرَادُ مَا مَضَى مِنَ الدنيا.

[سورة سبإ (34) : آية 53]

وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53)

ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ لَا نَفْعَ فِيهِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: / آمَنَّا بِهِ وَقَوْلِهِ: وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، إِمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِمَّا الْقُرْآنُ وَإِمَّا الْحَقُّ الَّذِي أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ أَقْرَبُ وَأَوْلَى، وَقَوْلُهُ: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ضِدُّ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لِأَنَّ الْغَيْبَ يَنْزِلُ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ، فَيَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ وَيَقْبَلُهُ الْمُؤْمِنُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ يَقْذِفُ بِالْغَيْبِ، أَيْ يَقُولُ مَا لَا يَعْلَمُهُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ مَأْخَذَهُمْ بَعِيدٌ أَخَذُوا الشَّرِيكَ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ إِلَّا إِذَا كَانُوا أَشْخَاصًا كَثِيرَةً، فَكَذَلِكَ الْمَخْلُوقَاتُ الْكَثِيرَةُ وَأَخَذُوا بَعْدَ الْإِعَادَةِ مِنْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015