حَتَّى إِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَ غَيْرَهُ سَوْطًا ثُمَّ نَجَا مِنْهُ لَا يُقَالُ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا، لِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي نَجَا مِنْهُ لَوْ وَقَعَ مَا كَانَ يَتَفَاوَتُ الْأَمْرُ تَفَاوُتًا كَثِيرًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى ثَوَابٍ كَثِيرٍ وَهُوَ الثَّوَابُ الدَّائِمُ الْأَبَدِيُّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)
لَمَّا أَرْشَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَأَدَّبَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَحْسَنِ الْآدَابِ، بَيَّنَ أَنَّ التَّكْلِيفَ الَّذِي وَجَّهَهُ اللَّهُ إِلَى الْإِنْسَانِ أَمْرٌ عَظِيمٌ فَقَالَ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ أَيِ التَّكْلِيفَ وَهُوَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا فِي الطَّبِيعَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النوع من التكليف ليس في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَرْضَ وَالْجَبَلَ وَالسَّمَاءَ كُلُّهَا عَلَى مَا خُلِقَتْ عَلَيْهِ الْجَبَلُ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ السَّيْرُ وَالْأَرْضُ لَا يُطْلَبُ مِنْهَا الصُّعُودُ وَلَا مِنَ السَّمَاءِ الْهُبُوطُ وَلَا فِي الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَإِنْ كَانُوا مَأْمُورِينَ مَنْهِيِّينَ عَنْ أَشْيَاءَ لَكِنَّ ذَلِكَ لَهُمْ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَنَا فَيُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ كَمَا يَشْتَغِلُ الْإِنْسَانُ بِأَمْرٍ مُوَافِقٍ لِطَبْعِهِ، وَفِي الْآيَةِ مسائل:
الأولى: في الأمانة وجوه كثيرة منهم مَنْ قَالَ هُوَ التَّكْلِيفُ وَسُمِّيَ أَمَانَةً لِأَنَّ مَنْ قَصَّرَ فِيهِ/ فَعَلَيْهِ الْغَرَامَةُ، وَمَنْ وَفَّرَ فَلَهُ الْكَرَامَةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ بَعِيدٌ فَإِنَّ السموات وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ بِأَلْسِنَتِهَا نَاطِقَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْأَعْضَاءُ فَالْعَيْنُ أَمَانَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يَحْفَظَهَا وَالْأُذُنُ كَذَلِكَ وَالْيَدُ كَذَلِكَ، وَالرِّجْلُ وَالْفَرْجُ وَاللِّسَانُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ بِمَا فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْعَرْضِ وُجُوهٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ الْعَرْضُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْحَشْرُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُقَابَلَةُ أَيْ قَابَلْنَا الأمانة على السموات فرجحت الأمانة على أهل السموات والأرض.
المسألة الثالثة: في السموات وَالْأَرْضِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ هِيَ بِأَعْيَانِهَا، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ أَهْلُوهَا، فَفِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: إِنَّا عرضنا الأمانة على أهل السموات وَالْأَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها لَمْ يَكُنْ إِبَاؤُهُنَّ كَإِبَاءِ إِبْلِيسَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الْحِجْرِ: 31] مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هُنَاكَ السُّجُودَ كَانَ فرضا، وهاهنا الْأَمَانَةُ كَانَتْ عَرْضًا وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْإِبَاءَ كَانَ هناك استكبارا وهاهنا اسْتِصْغَارًا اسْتَصْغَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَأَشْفَقْنَ مِنْها.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا سَبَبُ الْإِشْفَاقِ؟ نَقُولُ الْأَمَانَةُ لَا تُقْبَلُ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَزِيزًا صَعْبَ الْحِفْظِ كَالْأَوَانِي مِنَ الْجَوَاهِرِ الَّتِي تَكُونُ عَزِيزَةً سَرِيعَةَ الِانْكِسَارِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَمْتَنِعُ عَنْ قَبُولِهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَقَبِلَهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الزُّجَاجِ لَقَبِلَهَا، فِي الْأَوَّلِ لِأَمَانِهِ مِنْ هَلَاكِهَا، وَفِي الثَّانِي لِكَوْنِهَا غَيْرَ عَزِيزَةِ الْوُجُودِ وَالتَّكْلِيفُ كَذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ زَمَانَ شُهُبٍ وَغَارَةٍ فَلَا يَقْبَلُ الْعَاقِلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْوَدَائِعَ، وَالْأَمْرُ كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ وَجُنُودَهُ كَانُوا فِي قَصْدِ الْمُكَلَّفِينَ إذ العرض كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ الثَّالِثُ: مُرَاعَاةُ الْأَمَانَةِ وَالْإِتْيَانُ بِمَا يَجِبُ كَإِيدَاعِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى الْعَلْفِ وَالسَّقْيِ وَمَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ يَكُونُ بِرَسْمِهَا، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَمْتَنِعُ مِنْ قَبُولِهَا بِخِلَافِ مَتَاعٍ يُوضَعُ فِي صُنْدُوقٍ أَوْ فِي زَاوِيَةِ بَيْتٍ وَالتَّكْلِيفُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَرْبِيَةٍ وَتَنْمِيَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: كَيْفَ حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ وَلَمْ تَحْمِلْهَا هَذِهِ الْأَشْيَاءُ؟ فِيهِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: بِسَبَبِ جَهْلِهِ بِمَا