إِطْفَاءِ حَرِيقٍ فِيهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، جَازَ الدُّخُولُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَطَالَ الْمُكْثَ يَوْمَ وَلِيمَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عُرْسِ زَيْنَبَ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا، فَوَرَدَتِ الْآيَةُ جَامِعَةً لِآدَابٍ، مِنْهَا الْمَنْعُ مِنْ إِطَالَةِ الْمُكْثِ فِي بُيُوتِ النَّاسِ، وَفِي مَعْنَى الْبَيْتِ مَوْضِعٌ مُبَاحٌ اخْتَارَهُ شَخْصٌ لِعِبَادَتِهِ أَوِ اشْتِغَالِهِ بِشُغْلٍ فَيَأْتِيهِ أَحَدٌ وَيُطِيلُ الْمُكْثَ عِنْدَهُ، وَقَوْلُهُ: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ عَطْفٌ عَلَى غَيْرَ ناظِرِينَ مَجْرُورٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَطْفًا عَلَى الْمَعْنَى، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ لَا تَدْخُلُوهَا هَاجِمِينَ، فَعَطَفَ عَلَيْهِ وَلا مُسْتَأْنِسِينَ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَ ذَلِكَ أَدَبًا وَكَوْنَ النَّبِيِّ حَلِيمًا بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَأَدَبٌ، وَقَوْلُهُ كَانَ إِشَارَةٌ إِلَى تَحَمُّلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ أَدَبًا آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ لَمَّا مَنَعَ اللَّهُ النَّاسَ مِنْ دُخُولِ بُيُوتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَعَذُّرُ الْوُصُولِ إِلَى الْمَاعُونِ، بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ فَلْيَسْأَلْ وَلْيَطْلُبْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَقَوْلُهُ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ يَعْنِي الْعَيْنُ رَوْزَنَةُ الْقَلْبِ، فَإِذَا لَمْ تَرَ الْعَيْنُ لَا يَشْتَهِي الْقَلْبُ. أَمَّا إِنْ رَأَتِ الْعَيْنُ فَقَدْ يَشْتَهِي الْقَلْبُ وَقَدْ لَا يَشْتَهِي، فَالْقَلْبُ عِنْدَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ أَطْهَرُ، وَعَدَمُ الْفِتْنَةِ حِينَئِذٍ أَظْهَرُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلَّمَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَدَبَ أَكَّدَهُ بِمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى مُحَافَظَتِهِ، فَقَالَ: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَكُلُّ مَا مُنِعْتُمْ عَنْهُ مُؤْذٍ فَامْتَنِعُوا عَنْهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً قِيلَ سَبَبُ نُزُولِهِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قِيلَ هُوَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّه، قَالَ لَئِنْ عِشْتُ بَعْدَ مُحَمَّدٍ لَأَنْكِحَنَّ عَائِشَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ لَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ سَبَبُ النُّزُولِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ إِيذَاءَ الرَّسُولِ حَرَامٌ، وَالتَّعَرُّضُ لِنِسَائِهِ فِي حَيَاتِهِ إِيذَاءٌ فَلَا يَجُوزُ، ثُمَّ قَالَ لَا بَلْ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ مُطْلَقًا، ثُمَّ أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أي إيذاء الرسول. ثم قال تعالى:
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ الْحِجَابَ اسْتَثْنَى الْمَحَارِمَ بِقَوْلِهِ: لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وفي الآية مسائل:
الْأُولَى: فِي الْحِجَابِ أَوْجَبَ السُّؤَالَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ عَلَى الرِّجَالِ، فَلِمَ لَمْ يَسْتَثْنِ الرِّجَالَ عَنِ الْجُنَاحِ، وَلَمْ يَقُلْ لَا جُنَاحَ عَلَى آبائهن؟ فنقول قوله تعالى: فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب: 53] أَمْرٌ بِسَدْلِ السَّتْرِ عَلَيْهِنَّ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَوْنِهِنَّ مَسْتُورَاتٍ مَحْجُوبَاتٍ وَكَانَ الْحِجَابُ وَجَبَ عَلَيْهِنَّ، ثُمَّ أَمَرَ الرِّجَالَ بِتَرْكِهِنَّ كَذَلِكَ، وَنُهُوا عَنْ هَتْكِ أَسْتَارِهِنَّ فَاسْتُثْنِينَ عِنْدَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ عِنْدَ الْحِجَابِ أَمَرَ اللَّهُ الرَّجُلَ بِالسُّؤَالِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْمَرْأَةِ مَحْجُوبَةً عَنِ الرَّجُلِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَعِنْدَ الِاسْتِثْنَاءِ قَالَ تَعَالَى: لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ عِنْدَ رَفْعِ الْحِجَابِ عَنْهُنَّ، فَالرِّجَالُ أَوْلَى بذلك.