بَيَّنَ دَلَائِلَ الرِّيَاحِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْأَوَّلِ فِي إِرْسَالِهَا قُدْرَةٌ وَحِكْمَةٌ. أَمَّا الْقُدْرَةُ فَظَاهِرَةٌ فَإِنَّ الْهَوَاءَ اللَّطِيفَ الَّذِي يَشُقُّهُ الْوَدْقُ «1» يَصِيرُ بِحَيْثُ يَقْلَعُ الشَّجَرَ وَهُوَ لَيْسَ بِذَاتِهِ كَذَلِكَ فَهُوَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَفِي نَفْسِ الْهُبُوبِ فِيمَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ إِثَارَةِ السُّحُبِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنْوَاعَ السُّحُبِ فَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُتَّصِلًا وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا، ثُمَّ الْمَطَرُ يَخْرُجُ مِنْهُ وَالْمَاءُ فِي الْهَوَاءِ أَعْجَبُ عَلَامَةً لِلْقُدْرَةِ، وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ إِنْبَاتِ الزَّرْعِ وَإِدْرَارِ الضَّرْعِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، ثُمَّ أَنَّهُ لَا يَعَمُّ بَلْ يَخْتَصُّ بِهِ قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ وَهُوَ عَلَامَةُ الْمَشِيئَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ تَأْكِيدٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها [الْحَشْرِ: 17] وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَبْلِ التَّنْزِيلِ مِنْ قَبْلِ الْمَطَرِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَنْ قَبْلِهِ، أَيْ مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْدَ الْإِرْسَالِ يَعْرِفُ الْخَبِيرُ أَنَّ الرِّيحَ فِيهَا مَطَرٌ أَوْ لَيْسَ، فَقَبْلَ الْمَطَرِ إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ لَا يَكُونُ مُبْلِسًا، فَلَمَّا قَالَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُبْلِسِينَ، لِأَنَّ مَنْ قَبْلَهُ قد يكون راجيا غَالِبًا عَلَى ظَنِّهِ الْمَطَرُ بِرُؤْيَةِ السُّحُبِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ فَقَالَ مِنْ قَبْلِهِ، أَيْ مِنْ قَبْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِرْسَالِ الرِّيحِ وَبَسْطِ السَّحَابِ، ثُمَّ لَمَّا فَصَّلَ قَالَ: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ قَالَ لَمُحْيِي بِاللَّامِ الْمُؤَكِّدَةِ وَبِاسْمِ الْفَاعِلِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ إِنَّ الْمَلِكَ يُعْطِيكَ لَا يُفِيدُ مَا يُفِيدُ قَوْلُهُ إِنَّهُ مُعْطِيكَ، لِأَنَّ الثَّانِيَ يُفِيدُ أَنَّهُ أَعْطَاكَ فَكَانَ وَهُوَ مُعْطٍ مُتَّصِفًا بِالْعَطَاءِ، وَالْأَوَّلُ يُفِيدُ أَنَّهُ سَيَتَّصِفُ بِهِ وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِقَوْلِهِ إِنَّكَ مَيِّتٌ فَإِنَّهُ آكَدٌ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّكَ تَمُوتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَأْكِيدٌ لما يفيد الاعتراف. ثم قال تعالى:
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
[في قوله تَعَالَى وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ] لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ عِنْدَ تَوَقُّفِ الْخَيْرِ يَكُونُونَ مُبْلِسِينَ آيِسِينَ، وَعِنْدَ ظُهُورِهِ يَكُونُونَ مُسْتَبْشِرِينَ، بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ أَيْضًا لَا يَدُومُونَ عَلَيْهَا، بَلْ لَوْ أَصَابَ زَرْعَهُمْ رِيحٌ مُصْفَرٌّ لَكَفَرُوا فَهُمْ مُنْقَلِبُونَ غَيْرُ ثَابِتِينَ لِنَظَرِهِمْ إِلَى الْحَالِ لَا إِلَى الْمَآلِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى يُرْسِلُ الرِّياحَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْإِرْسَالِ، وَقَالَ هَاهُنَا وَلَئِنْ أَرْسَلْنا لَا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْإِرْسَالِ، لِأَنَّ الرِّيَاحَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ، والريح من عذابه وهو تعالى رؤوف بِالْعِبَادِ يُمْسِكُهَا، وَلِذَلِكَ نَرَى الرِّيَاحَ النَّافِعَةَ تَهُبُّ فِي اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فِي الْبَرَارِي وَالْآكَامِ، وَرِيحُ السَّمُومِ لَا تَهُبُّ إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ وفي بعض الأمكنة.