[سورة العنكبوت (29) : الآيات 33 الى 35]

وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

[في قوله تعالى وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً إلى قوله بِما كانُوا يَفْسُقُونَ] ثُمَّ إِنَّهُمْ جَاءُوا مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى لُوطٍ عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ فَظَنَّهُمْ بَشَرًا فَخَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أَحْسَنِ صُورَةٍ خَلَقَ اللَّهُ وَالْقَوْمُ كَمَا عُرِفَ حَالُهُمْ فَسِيءَ بِهِمْ أَيْ جَاءَهُ مَا سَاءَهُ وَخَافَ ثُمَّ عَجَزَ عَنْ تَدْبِيرِهِمْ فَحَزِنَ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا كِنَايَةً عَنِ الْعَجْزِ فِي تَدْبِيرِهِمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يُقَالُ طَالَ ذَرْعُهُ وَذِرَاعُهُ لِلْقَادِرِ وَضَاقَ لِلْعَاجِزِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ طَالَ ذِرَاعُهُ يَصِلُ إِلَى مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ قَصِيرُ الذِّرَاعِ وَالِاسْتِعْمَالُ يَحْتَمِلُ وَجْهًا مَعْقُولًا غَيْرَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ يُوجِبَانِ انْقِبَاضَ الرُّوحِ وَيَتْبَعُهُ اشْتِمَالُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ فَيَنْقَبِضُ هُوَ أَيْضًا وَالْقَلْبُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ مِنَ الْإِنْسَانِ، فَكَأَنَّ الْإِنْسَانَ انْقَبَضَ وَانْجَمَعَ وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ يَقِلُّ ذَرْعُهُ وَمِسَاحَتُهُ فَيَضِيقُ، وَيُقَالُ فِي الْحَزِينِ ضَاقَ ذَرْعُهُ وَالْغَضَبُ وَالْفَرَحُ يُوجِبَانِ انْبِسَاطَ الرُّوحِ فَيَنْبَسِطُ مَكَانَهُ وَهُوَ الْقَلْبُ وَيَتَّسِعُ فَيُقَالُ اتَّسَعَ ذَرْعُهَ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا رَأَوْا خَوْفَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَحُزْنَهُ بِسَبَبِ تَدْبِيرِهِمْ فِي ثَانِي الْأَمْرِ قَالُوا لَا تَخَفْ عَلَيْنَا وَلَا تَحْزَنْ بِسَبَبِ التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِنَا ثُمَّ ذَكَرُوا مَا يُوجِبُ زَوَالَ خَوْفِهِ وَحُزْنِهِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِ الْقَائِلِ لَا تَخَفْ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْخَوْفِ فَقَالُوا مُعَرِّضِينَ بِحَالِهِمْ: إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ وَإِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ فَيَطُولُ ذَرْعُهُ وَيَزُولُ رَوْعُهُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

إِحْدَاهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مِنْ قَبْلُ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ [العنكبوت: 31] وقال هاهنا: وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ فَنَقُولُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي وقت المجيء هناك قول/ الملائكة إِنَّا مُهْلِكُوا وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِمَجِيئِهِمْ لِأَنَّهُمْ بَشَّرُوا أَوَّلًا وَلَبِثُوا، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوا وَأَيْضًا فَالتَّأَنِّي وَاللُّبْثُ بَعْدَ الْمَجِيءِ ثُمَّ الْإِخْبَارُ بِالْإِهْلَاكِ حَسَنٌ فَإِنَّ مَنْ جَاءَ وَمَعَهُ خَبَرٌ هَائِلٌ يحسن منه أن لا يفاجئ به، والواقع هاهنا هُوَ خَوْفُ لُوطٍ عَلَيْهِمْ، وَالْمُؤْمِنُ حِينَ مَا يَشْعُرُ بِمَضَرَّةٍ تَصِلُ بَرِيئًا مِنَ الْجِنَايَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْزَنَ وَيَخَافَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، إذا علم هذا فقوله هاهنا: وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا يُفِيدُ الِاتِّصَالَ يَعْنِي خَافَ حِينَ الْمَجِيءِ، فَإِنْ قُلْتَ هَذَا بَاطِلٌ بِمَا أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ جَاءَتْ فِي سُورَةِ هُودٍ [77] ، وَقَالَ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً مِنْ غَيْرِ أَنْ، فَنَقُولُ هُنَاكَ جَاءَتْ حِكَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بِصِيغَةٍ أُخْرَى حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى [هود: 69] فَقَوْلُهُ هُنَالِكَ: وَلَقَدْ جاءَتْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّا أُرْسِلْنا كَانَ فِي وَقْتِ الْمَجِيءِ. وَقَوْلُهُ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ حُزْنَهُ كَانَ وَقْتَ الْمَجِيءِ. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ: هُنَاكَ قَدْ حَصَلَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَقْصُودِ بِقَوْلِهِ فِي حِكَايَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ثُمَّ جَرَى أُمُورٌ مِنَ الْكَلَامِ وَتَقْدِيمِ الطَّعَامِ، ثُمَّ قَالُوا: لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هود: 70] فَحَصَلَ تَأْخِيرُ الْإِنْذَارِ، وَبِقَوْلِهِ فِي حِكَايَةِ لُوطٍ وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا حَصَلَ بَيَانُ تَعْجِيلِ الْحُزْنِ، وَأَمَّا هُنَا لَمَّا قَالَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمَّا جاءَتْ قَالَ فِي حِكَايَةِ لُوطٍ وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَائِدَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هُنَا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ وَقَالَ لإبراهيم لَنُنَجِّيَنَّهُ [العنكبوت: 32] بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فَهَلْ فِيهِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015