وَهِيَ الْأَصْنَامُ أَنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ قَالَ فِي حَقِّهِمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ أَيْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ كَانُوا يُشَاهِدُونَ الْعَذَابَ لَوْ كَانُوا مِنَ الْأَحْيَاءِ الْمُهْتَدِينَ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَا جَرَمَ مَا رَأَتِ الْعَذَابَ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: وَرَأَوُا الْعَذابَ ضَمِيرٌ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْعُقَلَاءِ فَكَيْفَ يَصِحُّ عَوْدُهُ إِلَى الْأَصْنَامِ؟ قُلْنَا هَذَا كَقَوْلِهِ:
فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [الكهف: 52] وَإِنَّمَا وَرَدَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِ الْقَوْمِ فَكَذَا هَاهُنَا وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الرؤية رؤية القلب أي والكفار علموا حقيقة هَذَا الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا لَوْ كَانُوا يَهْتَدُونَ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ عِنْدِي خَيْرٌ مِنَ الْوُجُوهِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَنَّ جَوَابَ لَوْ مَحْذُوفٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَفْكِيكَ النَّظْمِ مِنَ الْآيَةِ الْأَمْرُ الثَّالِثُ:
مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَسْأَلُ اللَّهُ الْكُفَّارَ عَنْهَا قَوْلُهُ: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ أَيْ فَصَارَتِ الْأَنْبَاءُ كَالْعَمَى عَلَيْهِمْ جَمِيعًا لَا تَهْتَدِي إِلَيْهِمْ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا يَتَسَاءَلُ النَّاسُ فِي الْمُشْكِلَاتِ لِأَنَّهُمْ يَتَسَاوَوْنَ جَمِيعًا فِي عَمَى الْأَنْبَاءِ عَلَيْهِمْ وَالْعَجْزِ عَنِ الْجَوَابِ، وَقُرِئَ فَعَمِيَتْ وَإِذَا كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ لِهَوْلِ ذَلِكَ يُتَعْتِعُونَ فِي الْجَوَابِ عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ، وَيُفَوِّضُونَ الأمر إلى علم الله وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [الْمَائِدَةِ: 109] فَمَا ظَنُّكَ بِهَؤُلَاءِ الضُّلَّالِ، قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ لِأَنَّ فِعْلَهُمْ لَوْ كَانَ خَلْقًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَجِبُ وُقُوعُهُ بالقدرة والإرادة لما عميت عليهم الأنبياء وَلَقَالُوا إِنَّمَا أَتَيْنَا فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ مِنْ جِهَةِ خَلْقِكَ فِينَا تَكْذِيبَهُمْ وَالْقُدْرَةَ الْمُوجِبَةَ لِذَلِكَ، فَكَانَتْ حُجَّتُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ظَاهِرَةً وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِيمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا أَغْوَيْتُ بِخَلْقِكَ فِيَّ الْغَوَايَةَ، وَإِنَّمَا قَبِلَ مَنْ دَعْوَتُهُ لِمِثْلِ ذَلِكَ/ فَتَكُونُ الْحُجَّةُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوِيَّةً وَالْعُذْرُ ظَاهِرًا وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتْرُكُ آيَةً مِنَ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ إِلَّا وَيُعِيدُ اسْتِدْلَالَهُ بِهَا، وَكَمَا أَنَّ وَجْهَ اسْتِدْلَالِهِ فِي الْكُلِّ هَذَا الْحَرْفُ فَكَذَا وَجْهُ جَوَابِنَا حَرْفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ الْإِيمَانِ مَعَ وُقُوعِ الْإِيمَانِ مُتَنَافِيَانِ لِذَاتَيْهِمَا فَمَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ إِذَا أَمَرَ بِإِدْخَالِ الْإِيمَانِ فِي الْوُجُودِ فَقَدْ أَمَرَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَالَّذِي اعْتَمَدَ الْقَاضِي عَلَيْهِ فِي دَفْعِ هَذَا الْحَرْفِ فِي كُتُبِهِ الْكَلَامِيَّةِ قَوْلُهُ خَطَأٌ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ يُمْكِنُ وَخَطَأٌ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَلِ الْوَاجِبُ السُّكُوتُ وَلَوْ أَوْرَدَ الْكَافِرُ هَذَا السُّؤَالَ عَلَى رَبِّهِ لَمَا كَانَ لِرَبِّهِ عَنْهُ جَوَابٌ إِلَّا السُّكُوتَ، فَتَكُونُ حُجَّةُ الْكَافِرِ قَوِيَّةً وَعُذْرُهُ ظَاهِرًا فَثَبَتَ أَنَّ الْإِشْكَالَ مُشْتَرَكٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُعَذَّبِينَ مِنَ الْكُفَّارِ وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ التَّوْبِيخِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَنْ يَتُوبُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا تَرْغِيبًا فِي التَّوْبَةِ وَزَجْرًا عَنِ الثَّبَاتِ عَلَى الْكُفْرِ فَقَالَ: فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَفِي عَسَى وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنَ الْكِرَامِ تَحْقِيقٌ وَاللَّهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ وَثَانِيهَا: أَنْ يُرَادَ تَرَجِّي التَّائِبِ وَطَمَعُهُ كَأَنَّهُ قَالَ فَلْيَطْمَعْ فِي الْفَلَاحِ وَثَالِثُهَا: عَسَى أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ إِنْ دَامُوا عَلَى التَّوْبَةِ والإيمان لجواز