بِقَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالشِّرْكِ وَأَهْلُ مَكَّةَ لَيْسُوا كَذَلِكَ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ آمَنَ وَبَعْضَهُمْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ سَيُؤْمِنُونَ وَبَعْضٌ آخَرُونَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا لَكِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ نسلهم من يكون مؤمنا.
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّالِثُ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ لِأَنَّ حَاصِلَ شُبْهَتِهِمْ أَنْ قَالُوا تَرَكْنَا الدِّينَ لِئَلَّا تَفُوتَنَا الدُّنْيَا فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى، أَمَّا أَنَّهُ خَيْرٌ فَلِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَنَافِعَ هُنَاكَ أَعْظَمُ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا خَالِصَةٌ عَنِ الشَّوَائِبِ وَمَنَافِعُ الدُّنْيَا مَشُوبَةٌ بِالْمَضَارِّ بَلِ الْمَضَارُّ فِيهَا أَكْثَرُ، وَأَمَّا أَنَّهَا أَبْقَى فَلِأَنَّهَا دَائِمَةٌ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ وَمَنَافِعُ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَمَتَى قُوبِلَ الْمُتَنَاهِي بِغَيْرِ الْمُتَنَاهِي كَانَ عَدَمًا فَكَيْفَ وَنَصِيبُ كَلِّ أَحَدٍ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا كُلِّهَا كَالذَّرَّةِ بِالْقِيَاسِ إِلَى الْبَحْرِ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا لَا نِسْبَةَ لَهَا إِلَى مَنَافِعِ الْآخِرَةِ أَلْبَتَّةَ فَكَانَ مِنَ الْجَهْلِ الْعَظِيمِ تَرْكُ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ لِاسْتِبْقَاءِ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَلَمَّا نَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ يَعْنِي أَنَّ مَنْ لَا يُرَجِّحُ مَنَافِعَ الْآخِرَةِ عَلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا كَأَنَّهُ يَكُونُ خَارِجًا عَنْ حَدِّ الْعَقْلِ، وَرَحِمَ اللَّهُ الشَّافِعِيَّ حَيْثُ قَالَ: مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَعْقَلِ النَّاسِ صَرَفَ ذَلِكَ الثُّلُثَ إِلَى الْمُشْتَغِلِينَ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ أَعْقَلَ النَّاسِ مَنْ أَعْطَى الْقَلِيلَ وَأَخَذَ الْكَثِيرَ وَمَا هُمْ إِلَّا الْمُشْتَغِلُونَ بِالطَّاعَةِ فَكَأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ هَذَا التَّرْجِيحَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ كَانَتْ تَنْتَهِي إِلَى الِانْقِطَاعِ وَالْفَنَاءِ وَمَا كَانَتْ تَتَّصِلُ بِالْعَذَابِ الدَّائِمِ لَكَانَ صَرِيحُ الْعَقْلِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ نِعَمِ الْآخِرَةِ عَلَى نِعَمِ الدُّنْيَا فَكَيْفَ إِذَا اتَّصَلَتْ نِعَمُ الدُّنْيَا بِعِقَابِ الْآخِرَةِ فَأَيُّ عَقْلٍ يَرْتَابُ فِي أَنَّ نِعَمَ الْآخِرَةِ رَاجِحَةٌ عَلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ [الصافات: 57] فَهُوَ يَكُونُ كَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ قَدْرًا قَلِيلًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ لِلْعَذَابِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا تَرَكْنَا الدِّينَ لِلدُّنْيَا فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ عَقِيبَ دُنْيَاكُمْ مَضَرَّةُ الْعِقَابِ لَكَانَ الْعَقْلُ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ عَلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ وَهَذِهِ الدُّنْيَا يَحْصُلُ بَعْدَهَا الْعِقَابُ الدَّائِمُ، وَأَوْرَدَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الِاعْتِرَافِ بِالتَّرْجِيحِ وَتَخْصِيصُ لَفْظِ الْمُحْضَرِينَ بِالَّذِينِ أُحْضِرُوا لِلْعَذَابِ أَمْرٌ عُرِفَ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصَّافَّاتِ: 57] فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصَّافَّاتِ: 127] وَفِي لَفْظِهِ إِشْعَارٌ بِهِ لِأَنَّ الْإِحْضَارَ مُشْعِرٌ بِالتَّكْلِيفِ وَالْإِلْزَامِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِمَجَالِسِ اللَّذَّةِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِمَجَالِسِ الضَّرَرِ والمكاره.
[سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 66]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ (66)