وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ حُكْمَ الرَّامِي لِلْمُحْصَنَاتِ وَالْأَزْوَاجِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ بِاللِّعَانِ لِلْمَرْءِ سَبِيلًا إِلَى مُرَادِهِ، وَلَهَا سَبِيلًا إِلَى دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهَا، وَلَهُمَا السَّبِيلَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، فَلِأَجْلِ هَذَا بَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ عِظَمَ نِعَمِهِ فِيمَا بَيَّنَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَفِيمَا أَمْهَلَ وَأَبْقَى وَمَكَّنَ مِنَ التَّوْبَةِ وَلَا شبهة في أن الْكَلَامِ حَذْفًا إِذْ لَا بُدَّ مِنْ جَوَابٍ إِلَّا أَنَّ تَرْكَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يُكْتَنَهُ، وَرُبَّ مَسْكُوتٍ عَنْهُ أَبْلَغُ من منطوق به.
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11)
الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَفْسِيرُهُ وَالثَّانِي: سَبَبُ نُزُولِهِ:
أَمَّا التَّفْسِيرُ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ حَكَى الْوَاقِعَةَ وَهُوَ قوله: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ وَالْإِفْكُ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، وَقِيلَ هُوَ الْبُهْتَانُ وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لَا تَشْعُرُ بِهِ حَتَّى يَفْجَأَكَ وَأَصْلُهُ الْإِفْكُ وَهُوَ الْقَلْبُ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مَأْفُوكٌ عَنْ وَجْهِهِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا أُفِكَ بِهِ عَلَى عَائِشَةَ، وَإِنَّمَا وَصَفَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الْكَذِبَ بِكَوْنِهِ إِفْكًا لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ حَالِ عَائِشَةَ خِلَافُ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ كَوْنَهَا زَوْجَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْصُومِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَبْعُوثُونَ إِلَى الْكُفَّارِ لِيَدْعُوهُمْ/ وَيَسْتَعْطِفُوهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُمْ مَا يُنَفِّرُهُمْ عَنْهُمْ وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ بِحَيْثُ تَكُونُ زَوْجَتُهُ مُسَافِحَةً مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَفِّرَاتِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةُ النَّبِيِّ كَافِرَةً كَامْرَأَةِ نُوحٍ وَلُوطٍ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فَاجِرَةً «1» وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَكَانَ الرَّسُولُ أَعْرَفَ النَّاسِ بِامْتِنَاعِهِ وَلَوْ عَرَفَ ذَلِكَ لَمَا ضَاقَ قَلْبُهُ، وَلَمَا سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْوَاقِعَةِ قُلْنَا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ مِنَ الْمُنَفِّرَاتِ، أَمَّا كَوْنُهَا فَاجِرَةً فَمِنَ الْمُنَفِّرَاتِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثِيرًا مَا كَانَ يَضِيقُ قَلْبُهُ مِنْ أَقْوَالِ الْكُفَّارِ مَعَ عِلْمِهِ بِفَسَادِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [الْحِجْرِ: 97] فَكَانَ هَذَا مِنْ هَذَا الْبَابِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ حَالِ عَائِشَةَ قَبْلَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ إِنَّمَا هُوَ الصَّوْنُ وَالْبُعْدُ عَنْ مُقَدِّمَاتِ الْفُجُورِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اللَّائِقُ إِحْسَانَ الظَّنِّ بِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَاذِفِينَ كَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ كَلَامَ الْعَدُوِّ الْمُفْتَرَى ضَرْبٌ مِنَ الْهَذَيَانِ، فَلِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْقَرَائِنِ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مَعْلُومَ الْفَسَادِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ. أَمَّا الْعُصْبَةُ فَقِيلَ إِنَّهَا الْجَمَاعَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ وَكَذَلِكَ الْعِصَابَةُ وَاعْصَوْصَبُوا اجْتَمَعُوا، وَهُمْ عبد اللَّه بن أبي بن سَلُولَ رَأْسُ النِّفَاقِ، وَزَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ، وَحَسَّانُ بْنَ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جحش ومن ساعدهم.