عَلَى دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُفِيدُ التَّفَاوُتَ لَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ التَّفَاوُتَ فِي كُلِّ الدَّرَجَاتِ بَلْ فِي بَعْضٍ دُونٍ آخَرَ بَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا قِيلَ هَذَا الْعَالِمُ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ خِدْمَتِهِ الْقَاضِي وَلَا السُّلْطَانُ فَهَذَا لَا يُفِيدُ إِلَّا أَنَّ السُّلْطَانَ أَكْمَلُ مِنَ الْقَاضِي فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ وَالِاسْتِيلَاءُ وَالسُّلْطَانُ وَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنَ الْقَاضِي فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْبَطْشِ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَلَعَ مَدَائِنَ لُوطٍ وَالْبَشَرُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ مَزِيدِ الْخُضُوعِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّ الْفَضْلَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ وَكَثْرَةُ الثَّوَابِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ نِهَايَةِ التَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ وَكَوْنُ الْعَبْدِ مَوْصُوفًا بِنِهَايَةِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يُنَاسِبُ الِاسْتِنْكَافَ عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ وَلَا يُلَائِمُهَا الْبَتَّةَ بَلْ يُنَاقِضُهَا وَيُنَافِيهَا وَإِذَا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرًا جَلِيًّا كَانَ حَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مُخْرِجًا لَهُ عَنِ الْفَائِدَةِ، أَمَّا اتِّصَافُ الشَّخْصِ بِالْقُدْرَةِ الشَّدِيدَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِلتَّمَرُّدِ وَتَرْكِ الْعُبُودِيَّةِ فَالنَّصَارَى لَمَّا شَاهَدُوا مِنَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ أَخْرَجُوهُ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ بِسَبَبِ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْقُدْرَةِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ عِيسَى لَا يَسْتَنْكِفُ بِسَبَبِ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَنْ عُبُودِيَّتِي بَلْ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ الَّذِينَ هُمْ فَوْقَهُ فِي الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى عوالم السموات/ وَالْأَرَضِينَ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَنْتَظِمُ وَجْهُ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فِي الشِّدَّةِ وَالْبَطْشِ لَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ الْبَتَّةَ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ أَوْ يُقَالُ إِنَّهُمْ إِنَّمَا ادَّعَوْا إِلَهِيَّتَهُ لِأَنَّهُ حَصَلَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ فَقِيلَ لَهُمِ الْمَلَكُ مَا حَصَلَ مِنْ أَبٍ وَلَا مِنْ أُمٍّ فَكَانُوا أَعْجَبَ مِنْ عِيسَى فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ وُقُوعُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ فِي الْعُبُودِيَّةِ لَا فِي الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ مُقَرَّبِينَ وَالْقُرْبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ بَلْ بالدرجة والمنزلة فلما وصفهم هاهنا بِكَوْنِهِمْ مُقَرَّبِينَ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ وُقُوعُ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَسِيحِ فِي دَرَجَاتِ الْفَضْلِ لَا فِي الشِّدَّةِ وَالْبَطْشِ. قُلْنَا إِنْ كَانَ مَقْصُودُكَ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِكَوْنِهِمْ مُقَرَّبِينَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَسِيحُ كَذَلِكَ فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لا يدل على نفسه عَمَّا عَدَاهُ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ مُقَرَّبِينَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّفَاوُتُ وَاقِعًا فِي ذَلِكَ فَهَذَا بَاطِلٌ أَيْضًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَسِيحُ وَالْمُقَرَّبُونَ مَعَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي صِفَةِ الْقُرْبِ فِي الطَّاعَةِ يَتَبَايَنُونَ بِأُمُورٍ أُخَرَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بَيَانَ التَّفَاوُتِ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ. سُؤَالٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْآيَةِ فَنُسَلِّمُ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دُونَ مَجْمُوعِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْفَضْلِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْفَضْلِ. سُؤَالٌ آخَرُ: لَعَلَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْخِطَابَ مَعَ أَقْوَامٍ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فَأَوْرَدَ الْكَلَامَ عَلَى حَسَبِ مُعْتَقَدِهِمْ كما في فقوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] . وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى حكاية عن إبليس قوله: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الْأَعْرَافِ: 20] وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَقَرِّرًا عِنْدَ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ لَمْ يَقْدِرْ إِبْلِيسُ عَلَى أَنْ يَغُرَّهُمَا بِذَلِكَ وَلَا كَانَ آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ يَغْتَرَّانِ بِذَلِكَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا قَوْلُ إِبْلِيسَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، وَلَا يُقَالُ إِنَّ آدَمَ اعْتَقَدَ صِحَّةَ ذَلِكَ وَإِلَّا لَمَا اغْتَرَّ، وَاعْتِقَادُ آدَمَ حُجَّةٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَعَلَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ إِمَّا لِأَنَّ الزَّلَّةَ جَائِزَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَوْ لِأَنَّهُ مَا كَانَ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَيْضًا هَبْ أَنَّهُ حُجَّةٌ لَكِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الزَّلَّةِ نَبِيًّا فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ فَضْلِ الْمَلَكِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَضْلُ الْمَلَكِ عَلَيْهِ