الْمُخْلِصِينَ قَالَ بَعْدَهُ: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ يَرْغَبُونَ فِي الطَّاعَاتِ أَشَدَّ الرَّغْبَةِ فَيُبَادِرُونَهَا لِئَلَّا تَفُوتَ عَنْ وقتها ولكيلا تفوتهم دون الاحترام. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يَتَعَجَّلُونَ فِي الدُّنْيَا أَنْوَاعَ النَّفْعِ وَوُجُوهَ الْإِكْرَامِ، كَمَا قَالَ: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا/ وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آلِ عِمْرَانَ: 148] .

وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 27] لِأَنَّهُمْ إِذَا سُورِعَ لَهُمْ بِهَا فَقَدْ سَارَعُوا فِي نَيْلِهَا وَتَعَجَّلُوهَا، وَهَذَا الوجه أَحْسَنُ طِبَاقًا لِلْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ مَا نُفِيَ عَنِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُرِئَ يُسْرِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُمْ لَها سابِقُونَ فَالْمَعْنَى فَاعِلُونَ السَّبْقَ لِأَجْلِهَا أَوْ سَابِقُونَ النَّاسَ لِأَجْلِهَا أَوْ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ أَيْ يَنَالُونَهَا قَبْلَ الْآخِرَةِ حَيْثُ عُجِّلَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. وَالْمَعْنَى وَهُمْ لَهَا كَمَا يُقَالُ أَنْتَ لَهَا وَهِيَ لَكَ، ثُمَّ قَالَ سَابِقُونَ أَيْ وَهُمْ سَابِقُونَ.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 62 الى 65]

وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ ذَكَرَ حُكْمَيْنِ مِنْ أَحْكَامِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ فَالْأَوَّلُ:

قَوْلُهُ: وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَفِي الْوُسْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الطَّاقَةُ عَنِ الْمُفَضَّلِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ دُونَ الطَّاقَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَمُقَاتِلٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ الْوُسْعَ إِنَّمَا سُمِّيَ وُسْعًا لِأَنَّهُ يَتَّسِعُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَلَا يَصْعُبُ وَلَا يَضِيقُ، فَبَيَّنَ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُخْلِصِينَ لَمْ يُكَلَّفُوا أَكْثَرَ مِمَّا عَمِلُوا. قَالَ مُقَاتِلٌ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا فَلْيُصَلِّ جَالِسًا وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ جَالِسًا فَلْيُومِ إِيمَاءً لِأَنَّا لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَاسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهِ فِي نَفْيِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الْجَاثِيَةِ: 29] وَقَوْلُهُ: لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الْكَهْفِ: 49] .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ الْكِتَابَ بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ الْبَيَانُ فَإِنَّ الْكِتَابَ لَا يَنْطِقُ لَكِنَّهُ يُعْرِبُ بِمَا فِيهِ كَمَا يُعْرِبُ وَيَنْطِقُ النَّاطِقُ إِذَا كَانَ مُحِقًّا، فَإِنْ قِيلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْكِتَابُ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُحِيلِينَ الْكَذِبَ عَلَى اللَّه تَعَالَى أَوْ مُجَوِّزِينَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحَالُوهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ يُصَدِّقُونَهُ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ سَوَاءٌ وُجِدَ الْكِتَابُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَإِنْ جَوَّزُوهُ عَلَيْهِ لَمْ يَثِقُوا بِذَلِكَ الْكِتَابِ لِتَجْوِيزِهِمْ أَنَّهُ/ سُبْحَانَهُ كَتَبَ فِيهِ خِلَافَ مَا حَصَلَ. فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ؟ قُلْنَا يَفْعَلُ اللَّه مَا يَشَاءُ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الْكَهْفِ:

49] فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الظُّلْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعِقَابِ أَوْ بِالنُّقْصَانِ مِنَ الثَّوَابِ أَوْ بِأَنْ يُعَذَّبَ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْ أَوْ بِأَنْ يُكَلِّفَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِفِعْلِهِ وَإِلَّا لَكَانَ تَعْذِيبُهُ عَلَيْهِ ظُلْمًا وَدَالَّةً عَلَى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015