الْغَرَضِ وَهَذَا لَا يَلِيقُ إِلَّا باللَّه، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ اللَّه سَمَّاكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَفِي الْقُرْآنِ أَيْضًا بَيَّنَ فَضْلَكُمْ عَلَى الْأُمَمِ وَسَمَّاكُمْ بِهَذَا الِاسْمِ الْأَكْرَمِ، لأجل الشهادة المذكورة. فلما خَصَّكُمُ اللَّه بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ فَاعْبُدُوهُ وَلَا تَرُدُّوا تَكَالِيفَهُ. وَهَذَا هُوَ الْعِلَّةُ الثَّالِثَةُ: الْمُوجِبَةُ لِقَبُولِ التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْنَا، وَكَيْفَ تَكُونُ أُمَّتُهُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَبَيَّنَا أَنَّهُ أُخِذَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ.
النوع الرَّابِعُ: شَرْحُ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُؤَكَّدِ لِمَا مَضَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَيَجِبُ صَرْفُهَا إِلَى الْمَفْرُوضَاتِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَعْهُودَةُ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أَيْ بدلائله العقلية والسمية وَأَلْطَافِهِ وَعِصْمَتِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «سَلُوا اللَّه الْعِصْمَةَ عَنْ كُلِّ الْمُحَرَّمَاتِ» وَقَالَ الْقَفَّالُ: اجْعَلُوا اللَّه عِصْمَةً لَكُمْ مِمَّا تَحْذَرُونَ هُوَ مَوْلَاكُمْ وسيدكم المتصرف فيكم فنعم المولى ونعم البصير، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ أَنَا مَوْلَاكَ بَلْ أَنَا نَاصِرُكَ وَحَسْبُكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ/ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُلِّ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجْعَلُ الشَّهِيدَ عَلَى عِبَادِهِ إِلَّا مَنْ كَانَ عَدْلًا مَرْضِيًّا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ تَكُونُوا شُهَدَاءَ على الناس فقد أراد تَكُونُوا جَمِيعًا صَالِحِينَ عُدُولًا، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ منهم فاسقا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَرَادَ من الفسق كَوْنَهُ عَدْلًا وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ وَكَيْفَ يُمْكِنُ الِاعْتِصَامُ بِهِ مَعَ أَنَّ الشَّرَّ لَا يُوجَدُ إِلَّا مِنْهُ؟ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: فَنِعْمَ الْمَوْلى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّهُ خَلَقَ أَكْثَرَ عِبَادِهِ لِيَخْلُقَ فِيهِمُ الْكُفْرَ وَالْفَسَادَ ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ لَمَا كَانَ نِعْمَ الْمَوْلَى، بَلْ كَانَ لَا يُوجَدُ مِنْ شِرَارِ الْمَوَالِي أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ شَرُّ مِنْهُ.
فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ بِئْسَ الْمَوْلَى وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا أَرَادَ مِنْ جَمِيعِهِمْ إِلَّا الصَّلَاحَ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِعْمَ الْمَوْلَى لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً كَمَا أَنَّهُ نِعْمَ النَّصِيرُ لَهُمْ خَاصَّةً؟ قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ جَمِيعًا (?) فَيَجِبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ نِعْمَ الْمَوْلَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَبِئْسَ الْمَوْلَى لِلْكَافِرِينَ. فَإِنِ ارْتَكَبُوا ذَلِكَ فَقَدْ رَدُّوا الْقُرْآنَ وَالْإِجْمَاعَ وَصَرَّحُوا بِشَتْمِ اللَّه تَعَالَى، وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَنَّهَا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لُغَةً لَمَا أُضِيفَتْ إِلَى اللَّه تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ. وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ كَوْنُهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِكَوْنِهِ شَاهِدًا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ مُرِيدًا لِكَوْنِهِ عَدْلًا، فَنَقُولُ: إِنْ كَانَتْ إِرَادَةُ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمَةً لِإِرَادَةِ لَوَازِمِهِ فَإِرَادَةُ الْإِيمَانِ مِنَ الْكَافِرِ تُوجِبُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَلْزِمَةً لِإِرَادَةِ جَهْلِ اللَّه تَعَالَى فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِجَهْلِ نَفْسِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَاجِبًا سَقَطَ الْكَلَامُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ فَيُقَالُ هَذَا أَيْضًا وَارِدٌ عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الشَّهْوَةَ فِي قَلْبِ الْفَاسِقِ وَأَكَّدَهَا وَخَلَقَ الْمُشْتَهَى وَقَرَّبَهُ مِنْهُ وَرَفَعَ الْمَانِعَ ثُمَّ سَلَّطَ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا مَحَالَةَ يَقَعُ فِي الْفُجُورِ وَالضَّلَالِ، وَفِي الشَّاهِدِ كُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِئْسَ الْمَوْلَى، فَإِنْ صَحَّ قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ فَهَذَا لَازِمٌ عَلَيْكُمْ وَإِنْ بَطَلَ سَقَطَ كَلَامُكُمْ بِالْكُلِّيَّةِ.
تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحَجِّ، وَيَتْلُوهُ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ، والحمد للَّه رب العالمين.