[في قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ] اعْلَمْ أَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ، أَوْ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ.
وَقُرِئَ يَوْمَ تُطْوَى السَّمَاءُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَالسِّجِلُّ بِوَزْنِ الْعِتِلِّ وَالسَّجْلُ بِوَزْنِ الدَّلْوِ وَرُوِيَ فِيهِ الْكَسْرُ، وَفِي السِّجِلِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْمٌ لِلطُّومَارِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ وَالْكِتَابُ أَصْلُهُ الْمَصْدَرُ كَالْبِنَاءِ، ثُمَّ يُوقَعُ عَلَى الْمَكْتُوبِ، وَمَنْ جَمَعَ فَمَعْنَاهُ لِلْمَكْتُوبَاتِ أَيْ لِمَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى طَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ كَوْنَ السِّجِلِّ سَاتِرًا لِتِلْكَ الْكِتَابَةِ وَمُخْفِيًا لَهَا لِأَنَّ الطَّيَّ ضِدُّ النَّشْرِ الَّذِي يَكْشِفُ وَالْمَعْنَى نَطْوِي السَّمَاءَ كَمَا يُطْوَى الطُّومَارُ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ اسْمًا لِلطُّومَارِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا:
السِّجِلُّ اسْمُ مَلَكٍ يَطْوِي كُتُبَ بَنِي آدَمَ إِذَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَرَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ اسْمُ كَاتِبٍ كَانَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ كِتَابُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ سُمِّيَ بِهَذَا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الرَّجُلُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ فَهُوَ عَلَى نَحْوِ مَا يُقَالُ: كَطَيِّ زَيْدٍ الْكِتَابَ وَاللَّامُ فِي لِلْكِتَابِ زَائِدَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ رَدِفَ لَكُمْ، وَإِذَا قُلْنَا: الْمُرَادُ بِالسِّجِلِّ الطُّومَارُ فَالْمَصْدَرُ وَهُوَ الطَّيُّ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ كَطَيِّ الطَّاوِي السِّجِلَّ، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ: انْقَطَعَ الْكَلَامُ عند قوله الكتاب ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: كَما بَدَأْنا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء: 103] عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ فَوَصَفَ الْيَوْمَ بِذَلِكَ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِوَصْفٍ آخَرَ فَقَالَ: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» رَحِمَهُ اللَّه: أَوَّلَ خَلْقٍ مَفْعُولُ (نُعِيدُ) الَّذِي يُفَسِّرُهُ نُعِيدُهُ وَالْكَافُ مَكْفُوفَةٌ بِمَا وَالْمَعْنَى نُعِيدُ أَوَّلَ الْخَلْقِ كَمَا بَدَأْنَاهُ تَشْبِيهًا لِلْإِعَادَةِ بِالِابْتِدَاءِ، فَإِنْ قُلْتَ: مَا بَالُ خَلْقٍ مُنَكَّرًا؟ قُلْتُ:
هُوَ كَقَوْلِكَ أَوَّلُ رَجُلٍ جَاءَنِي زَيْدٌ، تُرِيدُ أَوَّلَ الرِّجَالِ وَلَكِنَّكَ وَحَّدْتَهُ وَنَكَّرْتَهُ إِرَادَةَ تَفْصِيلِهِمْ رَجُلًا رَجُلًا، فَكَذَلِكَ مَعْنَى أَوَّلَ خَلْقٍ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِمَعْنَى أَوَّلِ الْخَلَائِقِ لِأَنَّ الْخَلْقَ مَصْدَرٌ لَا يُجْمَعُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْإِعَادَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُفَرِّقُ أَجْزَاءَ الْأَجْسَامِ وَلَا يَعْدِمُهَا ثُمَّ إِنَّهُ يُعِيدُ تَرْكِيبَهَا فَذَلِكَ هُوَ الْإِعَادَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَعْدِمُهَا بِالْكُلِّيَّةِ ثُمَّ إِنَّهُ يُوجِدُهَا بِعَيْنِهَا مَرَّةً أُخْرَى وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَالَةٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ شَبَّهَ الْإِعَادَةَ بِالِابْتِدَاءِ. وَلَمَّا كَانَ الِابْتِدَاءُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ تَرْكِيبِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ بَلْ عَنِ الْوُجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْإِعَادَةِ كَذَلِكَ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] فدل هذا على أن السموات حَالَ كَوْنِهَا مَطْوِيَّةً تَكُونُ مَوْجُودَةً، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيمَ: 48] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَجْزَاءَ الْأَرْضِ بَاقِيَةٌ لَكِنَّهَا جُعِلَتْ غَيْرَ الْأَرْضِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعْداً عَلَيْنا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَعْدًا مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: نُعِيدُهُ عِدَةٌ