عَنِ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْأَسْبَابِ وَاسْتِغْرَاقِ الْقَلْبِ فِي نُورِ جَلَالِ مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَفَكَّرَ فِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى بِالدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ فَكَأَنَّهُ جَلَسَ فِي سَفِينَةِ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَأَمْوَاجُ الظُّلُمَاتِ وَالضَّلَالَاتِ قَدْ عَلَتْ تِلْكَ الْجِبَالَ وَارْتَفَعَتْ إِلَى مَصَاعِدِ الْقِلَالِ، فَإِذَا ابْتَدَأَتْ سَفِينَةُ الْفِكْرَةِ وَالرَّوِيَّةِ بِالْحَرَكَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ اعْتِمَادُهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَتَضَرُّعُهُ/ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ بِلِسَانِ الْقَلْبِ وَنَظَرِ الْعَقْلِ. يَقُولُ: بِسْمِ اللَّه مجريها وَمُرْسَاهَا حَتَّى تَصِلَ سَفِينَةُ فِكْرِهِ إِلَى سَاحِلِ النَّجَاةِ وَتَتَخَلَّصَ عَنْ أَمْوَاجِ الضَّلَالَاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَقْتُ الْإِهْلَاكِ وَإِظْهَارِ الْقَهْرِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذَا الذِّكْرُ؟
وَجَوَابُهُ: لَعَلَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ رَكِبُوا السَّفِينَةَ اعْتَقَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّا إِنَّمَا نَجَوْنَا بِبَرَكَةِ عِلْمِنَا فاللَّه تَعَالَى نَبَّهَهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ لِإِزَالَةِ ذَلِكَ الْعَجَبِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ أَنْوَاعِ الزَّلَّاتِ وَظُلُمَاتِ الشَّهَوَاتِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى إِعَانَةِ اللَّه وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَنْ يَكُونَ رحيما لعقوبته غفورا لذنوبه.
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
واعلم أن قَوْلِهِ: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا، فَرَكِبُوا فِيهَا يَقُولُونَ: بِسْمِ اللَّه وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَمْوَاجُ الْعَظِيمَةُ إِنَّمَا تَحْدُثُ عِنْدَ حُصُولِ الرِّيَاحِ الْقَوِيَّةِ الشَّدِيدَةِ الْعَاصِفَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ شَدِيدَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: بَيَانُ شِدَّةِ الْهَوْلِ وَالْفَزَعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْجَرَيَانُ فِي الْمَوْجِ، هُوَ أَنْ تَجْرِيَ السَّفِينَةُ دَاخِلَ الْمَوْجِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْغَرَقَ، / فَالْمُرَادُ أَنَّ الْأَمْوَاجَ لَمَّا أَحَاطَتْ بِالسَّفِينَةِ مِنَ الْجَوَانِبِ، شُبِّهَتْ تِلْكَ السَّفِينَةُ بِمَا إِذَا جَرَتْ فِي داخل تلك الأمواج.
[في قوله تعالى ونادى نوح ابنه وكان في معزل] ثُمَّ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ نَادَى ابْنَهُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ كَانَ ابْنًا لَهُ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ابْنُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ ونوح أيضا نص عليه فقال: يا بُنَيَّ وَصَرْفُ هَذَا اللَّفْظِ إِلَى أَنَّهُ رَبَّاهُ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الِابْنِ لِهَذَا السَّبَبِ صَرْفٌ لِلْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالَّذِينَ خَالَفُوا هَذَا الظَّاهِرَ إِنَّمَا خَالَفُوهُ لِأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ كَافِرًا، وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ وَالِدَ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَافِرًا، وَوَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كافرا بنص القرآن، فكذلك هاهنا، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: 26] فَكَيْفَ نَادَاهُ مَعَ كُفْرِهِ؟