السؤال الأول: الموصوفين بِهَذِهِ الصِّفَةِ كُفَّارٌ. وَالْكُفْرُ أَقْبَحُ وَأَخْبَثُ مِنَ الْفِسْقِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ وَصْفُهُمْ بِالْفِسْقِ فِي مَعْرِضِ الْمُبَالَغَةِ فِي الذَّمِّ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: إِنَّ الْكُفَّارَ كُلَّهُمْ فَاسِقُونَ، فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ فائدة.

والجواب عن الأول: أن الكفار قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي دِينِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فاسقاً خبيث النفس في دينه، فالمراد هاهنا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ مِنْ عَادَتِهِمْ نَقْضُ العهود أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ فِي دِينِهِمْ وَعِنْدَ أَقْوَامِهِمْ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُبَالَغَةَ فِي الذَّمِّ.

وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ الْكَافِرَ قَدْ يَكُونُ مُحْتَرِزًا عَنِ الْكَذِبِ، وَنَقْضِ الْعَهْدِ وَالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّخْصِ يَكُونُ مَذْمُومًا عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ وَفِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ مَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، وَأَيْضًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ قَدْ أَسْلَمَ وَتَابَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ أُولَئِكَ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَطْعَمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ حُلَفَاءَهُ، وَتَرَكَ حُلَفَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ تِلْكَ الْأَكْلَةِ. الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ أَعَانُوا/ الْمُشْرِكِينَ عَلَى نَقْضِ تِلْكَ الْعُهُودِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذَمَّ أُولَئِكَ الْيَهُودِ، وَهَذَا اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ كَالْأَمْرِ الْمُخْتَصِّ بِالْيَهُودِ وَيَقْوَى هَذَا الْوَجْهُ بِمَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَعَادَ قَوْلَهُ: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة: 10] وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُشْرِكِينَ لَكَانَ هَذَا تِكْرَارًا مَحْضًا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْيَهُودَ لَمْ يَكُنْ هَذَا تِكْرَارًا، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى.

ثم قال: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ [التوبة: 10] يَعْنِي يَعْتَدُونَ مَا حَدَّهُ اللَّه فِي دِينِهِ وَمَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ وَالْعَهْدُ، وَفِي ذَلِكَ نِهَايَةُ الذم. واللَّه أعلم.

[سورة التوبة (9) : الآيات 11 الى 12]

فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ مَنْ لَا يَرْقُبُ فِي اللَّه إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَيَنْقُضُ الْعَهْدَ وَيَنْطَوِي عَلَى النِّفَاقِ وَيَتَعَدَّى مَا حُدَّ لَهُ، بَيَّنَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُمْ إِنْ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ كَيْفَ حُكْمُهُمْ، فَجَمَعَ ذَلِكَ الشَّيْءَ بِقَوْلِهِ: فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَهُوَ يُفِيدُ جُمْلَةَ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ، وَلَوْ شُرِحَ لَطَالَ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّيْءِ بِكَلِمَةِ (إِنْ) عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَتَى لَمْ تُوجَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَا يَحْصُلُ الْأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فَقِيرًا، أَوْ إِنْ كَانَ غَنِيًّا، لَكِنْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015