وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ قَصَدَ؟ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْأَمْرُ بِالْقَصْدِ كَأَنَّكَ تَقُولُ: اقْصِدْ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَانَ الْأَصْلُ أَنْ قَالُوا: هَلْ لَكَ فِي الطَّعَامِ أَمٌّ أَيْ قَصْدٌ؟ ثُمَّ شَاعَ فِي الْكُلِّ كَمَا أَنَّ كَلِمَةَ «تَعَالَى» كَانَتْ مَخْصُوصَةً بِصُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ عَمَّتْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ بِاسْتِدْعَاءِ إِقَامَةِ الشُّهَدَاءِ مِنَ الْكَافِرِينَ لِيُظْهِرَ أَنْ لَا شَاهِدَ لَهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ وَمَعْنَى هَلُمَّ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنْ وَقَعَتْ مِنْهُمْ تِلْكَ الشَّهَادَةُ فَعَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ لَا يَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ ثُمَّ زَادَ فِي تَقْبِيحِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَكَانُوا مِمَّنْ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ وَزَادَ فِي تَقْبِيحِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَعْدِلُونَ بِرَبِّهِمْ/ فَيَجْعَلُونَ لَهُ شُرَكَاءَ. وَاللَّهُ اعلم
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ مَا يَقُولُ الْكُفَّارُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْنَا كَذَا وَكَذَا أَرْدَفَهُ تَعَالَى بِبَيَانِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : «تَعَالَ» مِنَ الْخَاصِّ الَّذِي صَارَ عَامًّا وَأَصْلُهُ ان يقوله من كان في مكان عال لِمَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ ثُمَّ كَثُرَ وَعَمَّ وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ مَنْصُوبٌ وَفِي نَاصِبِهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: أَتْلُ وَالتَّقْدِيرُ: أَتْلُ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِحَرَّمَ وَالتَّقْدِيرُ: أَتْلُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً كَالتَّفْصِيلِ لِمَا أَجْمَلَهُ فِي قَوْلِهِ: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ تَرْكَ الشِّرْكِ وَالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ لَا مُحَرَّمٌ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّحْرِيمِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ حَرِيمًا مُعَيَّنًا وَذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَهُ بَيَانًا مَضْبُوطًا مُعَيَّنًا فَقَوْلُهُ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ معناه: اتل عليكم ما بينه شَافِيًا بِحَيْثُ يَجْعَلُ لَهُ حَرِيمًا مُعَيَّنًا وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ وَانْقَطَعَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ:
عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا كَمَا يُقَالُ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ أَوْ أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ وَانْقَطَعَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً بِمَعْنَى لِئَلَّا تُشْرِكُوا وَالتَّقْدِيرُ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ لِئَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ «أَنْ» / فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تُشْرِكُوا مُفَسِّرَةً بِمَعْنَى: أَيْ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَيْ لَا تُشْرِكُوا أَيْ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ هُوَ قَوْلُهُ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مُفَسِّرًا لِقَوْلِهِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْإِحْسَانُ بِالْوَالِدَيْنِ حَرَامًا وَهُوَ باطل.