مَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أَيْ فِي أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ سِوَاهُ. وَكَذَّبْتُمْ أَنْتُمْ حَيْثُ أَشْرَكْتُمْ بِهِ غَيْرَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ هَذَا الشِّرْكِ. وَالْقَوْمُ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَ ذَلِكَ الْعَذَابِ. فَقَالَ تَعَالَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يَعْنِي قَوْلَهُمْ اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَالِ: 32] وَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ يُنْزِلُهُ اللَّه فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَرَادَ إِنْزَالَهُ فِيهِ. وَلَا قُدْرَةَ لِي عَلَى تَقْدِيمِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ. ثُمَّ قَالَ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وهذا مطلق يتناول الكل. والمراد هاهنا إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للَّه فَقَطْ فِي تَأْخِيرِ عَذَابِهِمْ يَقْضِي الْحَقَّ أَيِ الْقَضَاءَ الْحَقَّ فِي كُلِّ مَا يَقْضِي مِنَ التَّأْخِيرِ وَالتَّعْجِيلِ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أَيِ الْقَاضِينَ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا إِذَا قَضَى اللَّه بِهِ، فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ فِعْلُ الْكُفْرِ إِلَّا إِذَا قَضَى اللَّه بِهِ وَحَكَمَ بِهِ. وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه. وَاحْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ:
يَقْضِي الْحَقَّ وَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا قَضَى بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُرِيدَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ. وَلَا الْمَعْصِيَةَ مِنَ الْعَاصِي لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ الْحَقَّ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ يَقُصُّ الْحَقَّ بِالصَّادِ مِنَ الْقَصَصِ، يعني أن كل ما أنبأ اللَّه بِهِ وَأَمَرَ بِهِ فَهُوَ مِنْ أَقَاصِيصِ الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يُوسُفَ: 3] وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَقْضِ الْحَقَّ وَالْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ «يَقْضِ» بِغَيْرِ يَاءٍ لِأَنَّهَا سَقَطَتْ فِي اللَّفْظِ لالتقاء الساكنين كما كتبوا سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] فَما تُغْنِ النُّذُرُ [القمر: 5] وقوله: يقضى الْحَقَّ قَالَ الزَّجَّاجُ: فِيهِ وَجْهَانِ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَقَّ صِفَةَ الْمَصْدَرِ وَالتَّقْدِيرُ: يَقْضِ الْقَضَاءَ الْحَقَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَقْضِ الْحَقَّ يَصْنَعُ الْحَقَّ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ صَنَعَهُ اللَّه فَهُوَ حَقٌّ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْحَقَّ يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ وَقَضَى/ بِمَعْنَى صَنَعَ. قَالَ الْهُذَلِيُّ:
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ
أَيْ صَنَعَهُمَا دَاوُدُ وَاحْتَجَّ أَبُو عَمْرٍو عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ قَالَ وَالْفَصْلُ يَكُونُ فِي الْقَضَاءِ، لَا فِي الْقَصَصِ.
أجاب أبو علي الفارسي فقال القصص هاهنا بِمَعْنَى الْقَوْلِ. وَقَدْ جَاءَ الْفَصْلُ فِي الْقَوْلِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطَّارِقِ: 13] وَقَالَ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هُودٍ: 1] وَقَالَ: نُفَصِّلُ الْآياتِ [الأعراف:
32] .
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)