عَالَمِ الْأَرْوَاحِ لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. [الْأَعْرَافِ: 54] وَالْخَامِسُ: السَّجْدَةُ الْأُولَى سَجْدَةُ الشُّكْرِ بِمِقْدَارِ مَا أَعْطَانَا مِنْ مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَالسَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ سَجْدَةُ الْعَجْزِ وَالْخَوْفِ مِمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ مِنْ أَدَاءِ حُقُوقِ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ يَفْهَمُونَ مِنَ الْعَظَمَةِ كِبَرَ الْجُثَّةِ، وَيَفْهَمُونَ مِنَ الْعُلُوِّ عُلُوَّ الْجِهَةِ، وَيَفْهَمُونَ مِنَ الْكِبَرِ طُولَ الْمُدَّةِ، وَجَلَّ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذِهِ الْأَوْهَامِ، فَهُوَ عَظِيمٌ لَا بِالْجُثَّةِ، عَالٍ لَا بِالْجِهَةِ، كَبِيرٌ لَا بِالْمُدَّةِ، وَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ وَهُوَ فَرْدٌ أَحَدٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ عَظِيمًا بِالْجُثَّةِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَجْمِيَّةِ، وَكَيْفَ يَكُونُ عَالِيًا بِالْجِهَةِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِهَةِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ كَبِيرًا بِالْمُدَّةِ وَالْمُدَّةُ مُتَغَيِّرَةٌ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى سَاعَةٍ فَهِيَ مُحْدَثَةٌ فَمُحْدَثُهَا مَوْجُودٌ قَبْلَهَا فَكَيْفَ يَكُونُ كَبِيرًا بِالْمُدَّةِ؟ فَهُوَ تَعَالَى عالٍ عَلَى الْمَكَانِ لَا بِالْمَكَانِ، وَسَابِقٌ عَلَى الزَّمَانِ لَا بِالزَّمَانِ، فَكِبْرِيَاؤُهُ كِبْرِيَاءُ عَظَمَةٍ، وَعَظَمَتُهُ عَظَمَةُ عُلُوٍّ، وَعُلُوُّهُ عُلُوُّ جَلَالٍ، فَهُوَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُشَابِهَ الْمَحْسُوسَاتِ، وَيُنَاسِبَ الْمُخَيَّلَاتِ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِمَّا يَتَوَهَّمُهُ الْمُتَوَهِّمُونَ، وَأَعْظَمُ مِمَّا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ، وَأَعْلَى مِمَّا يُمِجِّدُهُ الْمُمَجِّدُونَ، فَإِذَا صَوَّرَ لَكَ حِسُّكَ مِثَالًا: فَقُلْ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَإِذَا عَيَّنَ خَيَالُكَ صُورَةً فَقُلْ: سُبْحَانَكَ اللَّهُ وَبِحَمْدِكَ، وَإِذَا زَلَقَ رِجْلُ طَلَبِكَ فِي مَهْوَاةِ التَّعْطِيلِ فَقُلْ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السموات وَالْأَرْضَ، وَإِذَا جَالَ رُوحُكَ فِي مَيَادِينِ الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى الصِّفَاتِ/ الْعُلَى وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَطَالَعَ مِنْ مَرْقُومَاتِ الْقَلَمِ عَلَى سَطْحِ اللَّوْحِ نَقْشًا وَسَكَنَ عِنْدَ سَمَاعِ تَسْبِيحَاتِ الْمُقَرَّبِينَ وَتَنْزِيهَاتِ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيِّينَ إِلَى صُورَةٍ فَاقْرَأْ عِنْدَ كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الصَّافَّاتِ: 180- 182] .
لطائف الحمد لله:
أَمَّا لَطَائِفُ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَأَرْبَعُ نُكَتٍ: النُّكْتَةُ الْأُولَى:
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ وَقَالَ: يَا رَبِّ، مَا جَزَاءُ مَنْ حَمِدَكَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ؟ فَقَالَ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاتِحَةُ الشُّكْرِ وَخَاتِمَتُهُ،
قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فَاتِحَةَ الشُّكْرِ جَعَلَهَا اللَّهُ فَاتِحَةَ كَلَامِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ خَاتِمَتَهُ جَعَلَهَا اللَّهُ خَاتِمَةَ كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
[يونس: 10] .
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ مِنْ نُورٍ مَكْنُونٍ مَخْزُونٍ مِنْ سَابِقِ عِلْمِهِ، فَجَعَلَ الْعِلْمَ نَفْسَهُ، وَالْفَهْمَ رُوحَهُ، وَالزُّهْدَ رَأْسَهُ، وَالْحَيَاءَ عَيْنَهُ، وَالْحِكْمَةَ لِسَانَهُ، وَالْخَيْرَ سَمْعَهُ، وَالرَّأْفَةَ قَلْبَهُ، وَالرَّحْمَةَ هَمَّهُ، وَالصَّبْرَ بَطْنَهُ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ تَكَلَّمْ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ نِدٌّ وَلَا ضِدٌّ وَلَا مِثْلٌ وَلَا عَدْلٌ، الَّذِي ذَلَّ كُلُّ شَيْءٍ لِعِزَّتِهِ فَقَالَ الرَّبُّ:
وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقًا أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ
وَأَيْضًا
نُقِلَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ،
فَكَانَ أَوَّلُ كَلَامِهِ ذَلِكَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَوَّلُ مَرَاتِبِ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ الْعَقْلُ، وَآخِرُ مَرَاتِبِهَا آدَمُ، وَقَدْ نَقَلْنَا أَوَّلَ كَلَامِ الْعَقْلِ هُوَ قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأَوَّلُ كَلَامِ آدَمَ هُوَ قَوْلُهُ: الْحَمْدُ، فَثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ كَلَامٍ لِفَاتِحَةِ الْمُحْدَثَاتِ هُوَ هَذِهِ