وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً مَعْنَاهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ لَوْ جَاءَهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ لَيْلًا وَقَدْ عَايَنُوا مُقَدِّمَتَهُ، لَمْ يَكُنْ بَغْتَةً وَلَوْ/ جَاءَهُمْ نَهَارًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِمُقَدِّمَتِهِ لَمْ يَكُنْ جَهْرَةً. فَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، اسْتَقَامَ الْكَلَامُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ مَعَ عِلْمِكُمْ بِأَنَّ الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ التَّمْيِيزُ.
قُلْنَا: إِنَّ الْهَلَاكَ وَإِنْ عَمَّ الْأَبْرَارَ وَالْأَشْرَارَ فِي الظَّاهِرِ، إِلَّا أَنَّ الْهَلَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ مُخْتَصٌّ بِالظَّالِمِينَ الشِّرِّيرِينَ، لِأَنَّ الْأَخْيَارَ يَسْتَوْجِبُونَ بِسَبَبِ نُزُولِ تِلْكَ الْمَضَارِّ بِهِمْ أَنْوَاعًا عَظِيمَةً مِنَ الثَّوَابِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، فَذَاكَ وَإِنْ كَانَ بَلَاءً فِي الظَّاهِرِ، إِلَّا أَنَّهُ يُوجِبُ سَعَادَاتٍ عَظِيمَةً؟
أَمَّا الظَّالِمُونَ فَإِذَا نَزَلَ الْبَلَاءُ بِهِمْ فَقَدْ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ مَعًا، فَلِذَلِكَ وَصَفَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِكَوْنِهِمْ هَالِكِينَ وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ النَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْبَلَاءِ أَوْ فِي الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ وَأَنَّ الْفَاسِقَ الْكَافِرَ هُوَ الشَّقِيُّ، كَيْفَ دَارَتْ قَضِيَّتُهُ وَاخْتَلَفَتْ أحواله، واللَّه أعلم.
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الكفار فيما تقدم أنهم قَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الأنعام: 37] وَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي جَوَابِهِمْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ بُعِثُوا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى إِظْهَارِ الْآيَاتِ وَإِنْزَالِ الْمُعْجِزَاتِ، بَلْ ذَاكَ مُفَوَّضٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى وَكَلِمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَقَالَ: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ مُبَشِّرِينَ بِالثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَمُنْذِرِينَ بِالْعِقَابِ عَلَى الْمَعَاصِي، فَمَنْ قَبِلَ قَوْلَهُمْ وَأَتَى بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالْإِصْلَاحِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الْجَسَدِ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ وَمَعْنَى الْمَسِّ فِي اللُّغَةِ الْتِقَاءُ الشَّيْئَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ عَذَابَ الْكُفَّارِ بِكَوْنِهِمْ فَاسِقِينَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ فَاسِقٍ كَذَلِكَ، فَيُقَالُ لَهُ هَذَا/ مُعَارَضٌ بِمَا أَنَّهُ خَصَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه بِهَذَا الْوَعِيدِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا بِآيَاتِ اللَّه أَنْ لَا يَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ أَصْلًا. وَأَيْضًا فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ هَذَا الْوَعِيدِ مُعَلَّلًا بِفِسْقِهِمْ فَلِمَ قُلْتُمْ أَنَّ فِسْقَ مَنْ عَرَفَ اللَّه وَأَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، مُسَاوٍ لِفِسْقِ مَنْ أنكر هذه الأشياء؟ واللَّه أعلم.
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الْأَنْعَامِ: 37] فَقَالَ اللَّه تَعَالَى قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ، إِنَّمَا بُعِثْتُ مُبَشِّرًا وَمُنْذِرًا، وَلَيْسَ لِي أَنْ أَتَحَكَّمَ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَأَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ أُمُورًا ثَلَاثَةً، أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ إِنْ