الْإِضَافَةُ، قَالُوا لِأَنَّ الصِّفَةَ نَفْسُ الْمَوْصُوفِ، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مُمْتَنِعَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ نَفْسُ الْمَوْصُوفِ وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ يُعْقَلُ تَصَوُّرُ الْمَوْصُوفِ مُنْفَكًّا عَنِ الصِّفَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْصُوفُ عَيْنَ الصِّفَةِ لَكَانَ ذَلِكَ مُحَالًا، وَلِقَوْلِهِمْ وَجْهٌ دَقِيقٌ يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَكَانِ، ثُمَّ إِنَّ الْبَصْرِيِّينَ ذَكَرُوا فِي تَصْحِيحِ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَجْهًا آخَرَ، فَقَالُوا لَمْ يَجْعَلِ الْآخِرَةَ صِفَةً لِلدَّارِ، لَكِنَّهُ جَعَلَهَا صِفَةً لِلسَّاعَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَدَارُ السَّاعَةِ الْآخِرَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ تَكُونُ قَدْ أُقِيمَتِ الْآخِرَةُ الَّتِي هِيَ الصِّفَةُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ الَّذِي هُوَ السَّاعَةُ وَذَلِكَ قَبِيحٌ. قُلْنَا لَا يَقْبُحُ ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الصِّفَةُ قَدِ اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ/ الأسماء ولفظ الآخرة قد استعمل الْأَسْمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: قَوْلُهُ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضُّحَى: 4] وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي جَعْلَ الْآخِرَةِ صِفَةً لِلدَّارِ وَذَلِكَ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَمَتَى أَمْكَنَ إِجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْعُدُولِ عَنْهُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى وُجُوهٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْجَنَّةُ، وَإِنَّهَا خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ نَفْسُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: التَّمَسُّكُ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: نَعِيمُ الْآخِرَةِ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، مِنْ حيث إنها كانت بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ مَصُونَةٌ عَنِ الشَّوَائِبِ آمِنَةٌ مِنَ الِانْقِضَاءِ وَالِانْقِرَاضِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِمَنْ كَانَ مِنَ الْمُتَّقِينَ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ. فَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ فَلَا! لِأَنَّ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ خَيْرٌ مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» .
ثُمَّ قَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ أَفَلا تَعْقِلُونَ بالتاء هاهنا وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَيُوسُفَ وَيس. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ فِي يس بِالْيَاءِ وَالْبَاقِي بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى فِي يُوسُفَ بِالتَّاءِ وَالْبَاقِي بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ الْأَعْشَى وَالْبُرْجُمِيِّ جَمِيعَ ذَلِكَ بِالْيَاءِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ مَعْنَاهُ: أَفَلَا يَعْقِلُونَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ؟
فَيَعْمَلُونَ لِمَا يَنَالُونَ بِهِ الدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ وَالنَّعِيمَ الدَّائِمَ فَلَا يَفْتُرُونَ فِي طَلَبِ مَا يُوصِلُ إِلَى ذَلِكَ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ، فَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ أَنَّ ذلك خير؟ واللَّه أعلم.
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ طَوَائِفَ الْكُفَّارِ كَانُوا فِرَقًا كَثِيرِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ نُبُوَّتَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ رِسَالَةَ الْبَشَرِ وَيَقُولُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّه مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ شُبْهَةَ هَؤُلَاءِ وَأَجَابَ عَنْهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُخْبِرُنَا بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَذَلِكَ/ مُحَالٌ. وَكَانُوا يَسْتَدِلُّونَ بِامْتِنَاعِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ عَلَى الطَّعْنِ فِي رِسَالَتِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ وَأَجَابَ عَنْهُ بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُشَافِهُهُ بِالسَّفَاهَةِ وَذِكْرِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاخْتَلَفُوا