إِلَى الدُّنْيَا فَمَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَى الْكُفْرِ باللَّه وَإِلَى مَعْصِيَةِ اللَّه.
قُلْنَا: قَالَ الْقَاضِي: تَقْرِيرُ الْآيَةِ وَلَوْ رُدُّوا إِلَى حَالَةِ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الرَّدُّ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقِيَامَةِ مَعْرِفَةُ اللَّه بِالضَّرُورَةِ، وَلَمْ يَحْصُلْ هُنَاكَ مُشَاهَدَةُ الْأَهْوَالِ وَعَذَابِ جَهَنَّمَ، فَهَذَا الشَّرْطُ يَكُونُ مُضْمَرًا لَا مَحَالَةَ فِي الْآيَةِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ هَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ غُلُوِّهِمْ فِي الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي الْإِيمَانِ، وَلَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى فِي الْقِيَامَةِ، وَعَدَمَ مُشَاهَدَةِ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ لَمْ يَكُنْ فِي إِصْرَارِ الْقَوْمِ عَلَى كُفْرِهِمُ الْأَوَّلِ مَزِيدُ تَعَجُّبٍ، لِأَنَّ إِصْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ يَجْرِي مَجْرَى إِصْرَارِ سَائِرِ الْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ فِي الدُّنْيَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ الْبَتَّةَ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ جَرَى عَلَيْهِمْ قَضَاؤُهُ فِي الأزل بالشرك. ثم إنه تعالى بين أنهم لو شاهدوا النار والعذاب، ثم سألوا الرجعة وردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك، وَذَلِكَ الْقَضَاءُ السَّابِقُ فِيهِمْ، وَإِلَّا فَالْعَاقِلُ لَا يَرْتَابُ فِيمَا شَاهَدَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ خَبَرٍ حَتَّى يَصْرِفَ هَذَا التَّكْذِيبَ إِلَيْهِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الدَّاخِلُ فِي التَّمَنِّي هُوَ مُجَرَّدُ قوله يا لَيْتَنا نُرَدُّ أَمَّا الْبَاقِي فَهُوَ إِخْبَارٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلِ الْكُلُّ دَاخِلٌ فِي التَّمَنِّي، لِأَنَّ إِدْخَالَ التَّكْذِيبِ فِي التَّمَنِّي أَيْضًا جَائِزٌ، لِأَنَّ التَّمَنِّيَ يَدُلُّ عَلَى الْإِخْبَارِ عَلَى سَبِيلِ الضِّمْنِ وَالصَّيْرُورَةِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ لَيْتَ زَيْدًا جَاءَنَا فَكُنَّا تأكل ونشرب ونتحدث فكذا هاهنا. واللَّه أعلم.
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
اعْلَمْ أَنَّهُ حَصَلَ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، أَنَّهُ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي يُخْفُونَهُ هُوَ أَمْرُ الْمَعَادِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ وَيُخْفُونَ صِحَّتَهُ وَيَقُولُونَ مَا لَنَا إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَلَأَنْكَرُوا الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ، وَقَالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ.
[سورة الأنعام (6) : آية 30]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِنْكَارَهُمْ لِلْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَيْفِيَّةَ حَالِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ، فَقَالَ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُشَبِّهَةِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ يَقِفُونَ عِنْدَ اللَّه وَبِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى بِحَيْثُ يَحْضُرُ فِي مَكَانٍ تَارَةً وَيَغِيبُ عَنْهُ تَارَةً أُخْرَى.