أَلَا تَرَى أَنَّ الصِّدِّيقَ اخْتَارَ صُحْبَةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَزِمَهُ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْقَبْرِ، وَفِي الْقِيَامَةِ، وَفِي الْجَنَّةِ وَأَنَّ كَلْبًا صَحِبَ أَصْحَابَ الْكَهْفِ فَلَزِمَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْآخِرَةِ، ولهذا السر قال تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التَّوْبَةِ: 119] ثُمَّ إِذَا تَطَهَّرْتَ فَارْفَعْ يَدَيْكَ، وَذَلِكَ الرَّفْعُ إِشَارَةٌ إِلَى تَوْدِيعِ عَالَمِ الدُّنْيَا وَعَالَمِ الْآخِرَةِ فَاقْطَعْ نَظَرَكَ عَنْهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَوَجِّهْ قَلْبَكَ وَرُوحَكَ وَسِرَّكَ وَعَقْلَكَ وَفَهْمَكَ وَذِكْرَكَ وَفِكْرَكَ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَعْلَى وَأَعْظَمُ وَأَعَزُّ مِنْ كُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، بَلْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُقَاسَ إِلَيْهِ شَيْءٌ أَوْ يُقَالَ إِنَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قُلْ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَجَلَّى لَكَ نُورُ سُبُحَاتِ الْجَلَالِ، ثُمَّ تَرَقَّيْتَ مِنَ التَّسْبِيحِ إِلَى التَّحْمِيدِ ثُمَّ قُلْ: تَبَارَكَ اسْمُكَ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ انْكَشَفَ لَكَ نُورُ الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَبَارَكَ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّوَامِ الْمُنَزَّهِ عَنِ الْإِفْنَاءِ وَالْإِعْدَامِ، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِمُطَالَعَةِ حَقِيقَةِ الْأَزَلِ فِي الْعَدَمِ، وَمُطَالَعَةِ حَقِيقَةِ الْأَبَدِ فِي الْبَقَاءِ، ثُمَّ قُلْ: وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَعْلَمُ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُ جَلَالِهِ وَنُعُوتُ كَمَالِهِ مَحْصُورَةً فِي الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ قُلْ: وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَسِمَاتِ الْكَمَالِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، فَهُوَ الْكَامِلُ الَّذِي لَا كَامِلَ إِلَّا هُوَ، وَالْمُقَدَّسُ الَّذِي لَا مُقَدَّسَ إِلَّا هُوَ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا هُوَ إِلَّا هُوَ وَلَا إله إلا هو، والعقل هاهنا يَنْقَطِعُ، وَاللِّسَانُ يَعْتَقِلُ، وَالْفَهْمُ يَتَبَلَّدُ، وَالْخَيَالُ يَتَحَيَّرُ، وَالْعَقْلُ يَصِيرُ كَالزَّمَنِ، ثُمَّ عُدْ إِلَى نَفْسِكَ وحالك وقل: وجهت وجهي للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ، فَقَوْلُكَ:
«سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ» مِعْرَاجُ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَةِ: 30] وَهُوَ أَيْضًا مِعْرَاجُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ مِعْرَاجَهُ مُفْتَتَحٌ بِقَوْلِهِ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ» وَأَمَّا قَوْلُكَ: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ» فَهُوَ مِعْرَاجُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُكَ: «إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ» فَهُوَ مِعْرَاجُ مُحَمَّدٍ الْحَبِيبِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا قَرَأْتَ هَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ فَقَدْ جَمَعْتَ بَيْنَ مِعْرَاجِ أَكَابِرِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَبَيْنَ مِعْرَاجِ عُظَمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، ثُمَّ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ فَقُلْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، لِتَدْفَعَ ضَرَرَ الْعُجْبِ مِنْ نَفْسِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، فَفِي هَذَا الْمَقَامِ انْفَتَحَ لَكَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ بَابُ الْمَعْرِفَةِ، وَالْبَابُ الثَّانِي: هُوَ بَابُ الذِّكْرِ وَهُوَ قَوْلُكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالْبَابُ الثَّالِثُ: بَابُ الشُّكْرِ، وَهُوَ قَوْلُكَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْبَابُ الرابع: باب الرَّجَاءُ، وَهُوَ قَوْلُكَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالْبَابُ الْخَامِسُ: بَابُ الْخَوْفِ، وَهُوَ قَوْلُكَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَالْبَابُ السَّادِسُ: بَابُ/ الْإِخْلَاصِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَمَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُكَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَالْبَابُ السَّابِعُ: بَابُ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ كَمَا قَالَ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النَّمْلِ: 62] وَقَالَ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] وَهُوَ هاهنا قَوْلُكَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَالْبَابُ الثَّامِنُ: بَابُ الِاقْتِدَاءِ بِالْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ الطَّاهِرَةِ وَالِاهْتِدَاءِ بِأَنْوَارِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُكَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ إِذَا قَرَأْتَ هَذِهِ السُّورَةَ. وَوَقَفْتَ عَلَى أَسْرَارِهَا انْفَتَحَتْ لَكَ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: 50] فَجَنَّاتُ الْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ انْفَتَحَتْ أَبْوَابُهَا بِهَذِهِ الْمَقَالِيدِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا حَصَلَ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْمِعْرَاجِ الرُّوحَانِيِّ.
وَأَمَّا الْمِعْرَاجُ الْجُسْمَانِيُّ فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى أَنْ تَقُومَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ مِثْلَ قِيَامِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ