يَقْبَلُوا ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَوْحِشُوا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّكُمْ خَرَجْتُمْ عَنْ عُهْدَةِ تَكْلِيفِكُمْ فَلَا يَضُرُّكُمْ ضَلَالُ غَيْرِكُمْ.

وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِرَسُولِهِ فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النِّسَاءِ: 84] وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ عَنِ الرَّسُولِ فَكَذَا هاهنا.

المسألة الخامسة: قريء لَا يَضُرَّكُمْ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَجْزُومًا عَلَى جَوَابِ قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وقريء بِضَمِّ الرَّاءِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ أَيْ لَيْسَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ، وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّهَا الْفَتْحُ عَلَى الْجَوَابِ وَلَكِنْ ضُمَّتِ الرَّاءُ إِتْبَاعًا لِضَمَّةِ الضَّادِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يُرِيدُ مَصِيرَكُمْ وَمَصِيرَ مَنْ خَالَفَكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَعْنِي يجازيكم بأعمالكم.

[سورة المائدة (5) : آية 106]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ.

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى: لَمَّا أَمَرَ بِحِفْظِ النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة: 105] أمر بحفظ المال في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ وَأَخَاهُ عَدِيًّا كَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ خَرَجَا إِلَى الشَّامِ وَمَعَهُمَا بَدِيلٌ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَكَانَ مُسْلِمًا مُهَاجِرًا، خَرَجُوا لِلتِّجَارَةِ فَلَمَّا قَدِمُوا الشَّامَ مَرِضَ بَدِيلٌ فَكَتَبَ كِتَابًا فِيهِ نُسْخَةُ جَمِيعِ مَا مَعَهُ وَأَلْقَاهُ فِيمَا بَيْنَ الْأَقْمِشَةِ وَلَمْ يُخْبِرْ صَاحِبَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ أَوْصَى إِلَيْهِمَا وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَدْفَعَا مَتَاعَهُ إِذَا رَجَعَا إِلَى أَهْلِهِ، وَمَاتَ بَدِيلٌ فَأَخَذَا مِنْ مَتَاعِهِ إِنَاءً مِنْ فِضَّةٍ مَنْقُوشًا بِالذَّهَبِ ثَلَاثَمِائَةِ مِثْقَالٍ، وَدَفَعَا بَاقِيَ الْمَتَاعِ إِلَى أَهْلِهِ لَمَّا قَدِمَا، فَفَتَّشُوا فَوَجَدُوا الصَّحِيفَةَ، وَفِيهَا ذِكْرُ الْإِنَاءِ، فَقَالُوا لِتَمِيمٍ وَعَدِيٍّ: أَيْنَ الْإِنَاءُ؟ فَقَالَا لا ندري، والذي رفع إِلَيْنَا دَفَعْنَاهُ إِلَيْكُمْ، فَرَفَعُوا الْوَاقِعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ شَهادَةُ بَيْنِكُمْ يَعْنِي شَهَادَةَ مَا بَيْنَكُمْ وَمَا بَيْنَكُمْ كِنَايَةٌ عَنِ التَّنَازُعِ وَالتَّشَاجُرِ، وَإِنَّمَا أَضَافَ الشَّهَادَةَ إِلَى التَّنَازُعِ لِأَنَّ الشُّهُودَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ وُقُوعِ التَّنَازُعِ، وَحَذْفُ مَا مِنْ قَوْلِهِ شَهادَةُ بَيْنِكُمْ جَائِزٌ لِظُهُورِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْفِ: 78] أَيْ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَقَوْلُهُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَامِ: 94] فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ، وَقَوْلُهُ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ يَعْنِي الشَّهَادَةَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا عند حضور الموت، وحين الْوَصِيَّةِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ لِأَنَّ زَمَانَ حُضُورِ الْمَوْتِ هُوَ زَمَانُ حُضُورِ الْوَصِيَّةِ، فَعُرِفَ ذَلِكَ الزَّمَانُ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِيهِ، كَمَا يُقَالُ: ائْتِنِي إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ حِينَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَالْمُرَادُ بِحُضُورِ الْمَوْتِ مُشَارَفَتُهُ وَظُهُورُ أَمَارَاتِ وُقُوعِهِ، كَقَوْلِهِ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015