الطَّيِّبَاتِ حَرَّمَ الْإِسْرَافَ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَعْتَدُوا ونظيره قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الْأَعْرَافِ: 31] الثَّالِثُ: يَعْنِي لِمَا أَحَلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتِ فَاكْتَفُوا بِهَذِهِ الْمُحَلَّلَاتِ وَلَا تتعدوها إلى ما حرّم عليكم.
ثم قال تعالى:
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ وَكُلُوا صِيغَةُ أَمْرٍ، وَظَاهِرُهَا لِلْوُجُوبِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا الْإِبَاحَةُ وَالتَّحْلِيلُ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِهِ فِي أَنَّ التَّطَوُّعَ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَقَالُوا: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الْأَكْلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَتَنَاوَلُ مَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ خُصَّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ إِلَّا أَنَّ الْعَامَّ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ حَلالًا طَيِّباً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْأَكْلِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَأْكُولِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: كُلُوا حَلَالًا طَيِّبًا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّه، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي: كُلُوا مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي يَكُونُ حَلَالًا طَيِّبًا، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فإنه حجة المعتزلة عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَلَالًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ دَالَّةٌ عَلَى الْإِذْنِ فِي أَكْلِ كُلِّ مَا رَزَقَ اللَّه تَعَالَى وَإِنَّمَا يَأْذَنُ اللَّه تَعَالَى فِي أَكْلِ الْحَلَالِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا كَانَ رِزْقًا كَانَ حَلَالًا، وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَإِنَّهُ حُجَّةٌ لِأَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ إِذْنَ الْأَكْلِ بِالرِّزْقِ الَّذِي يَكُونُ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَوْلَا أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ لَا يَكُونُ حَلَالًا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَقُلْ تَعَالَى: كُلُوا مَا رَزَقَكُمْ، ولكن قال كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَكَلِمَةُ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اقْتَصِرُوا فِي الْأَكْلِ عَلَى الْبَعْضِ وَاصْرِفُوا الْبَقِيَّةَ إِلَى الصَّدَقَاتِ وَالْخَيْرَاتِ لِأَنَّهُ إِرْشَادٌ إِلَى تَرْكِ الْإِسْرَافِ كَمَا قال: وَلا تُسْرِفُوا [الأنعام: 141] [الْأَعْرَافِ: 31] .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِ كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَكَفَّلْ بِرِزْقِهِ لَمَا قَالَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَإِذَا تَكَفَّلَ اللَّه بِرِزْقِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يُبَالِغَ فِي الطَّلَبِ وَأَنْ يُعَوِّلَ عَلَى وَعْدِ اللَّه تَعَالَى وَإِحْسَانِهِ، فَإِنَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُخْلِفَ الْوَعْدَ، وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا فَاتَّقُوا اللَّه وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ»
أَمَّا قَوْلُهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلتَّوْصِيَةِ/ بِمَا أَمَرَ بِهِ، زَادَهُ تَوْكِيدًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ يُوجِبُ التَّقْوَى فِي الِانْتِهَاءِ إِلَى مَا أَمَرَ بِهِ وَعَمَّا نَهَى عنه.
[سورة المائدة (5) : آية 89]
لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْوَاعًا مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: أَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ هَذَا الْحُكْمِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ حَتَّى يَحْسُنَ ذِكْرُهُ عَقِيبَهُ؟ فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ قَوْمًا مِنَ الصَّحَابَةِ