ثم قال تعالى: يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَقُومُونَ إِلَى الصَّلَاةِ إِلَّا لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، لَا لِأَجْلِ الدِّينِ.
فَإِنْ قِيلَ: ما معنى المراءاة وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ.
قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَائِيَ يُرِيهِمْ عَمَلَهُ وَهُمْ يُرُونَهُ اسْتِحْسَانَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَفِي قَوْلِهِ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ اللَّه الصَّلَاةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ إِلَّا قَلِيلًا، لِأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْأَجَانِبِ لَمْ يُصَلُّوا، وَإِذَا كَانُوا مَعَ النَّاسِ فَعِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ يَتَكَلَّفُونَ حَتَّى يَصِيرُوا غَائِبِينَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ اللَّه أَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَلَاتِهِمْ لَا يَذْكُرُونَ اللَّه إِلَّا قَلِيلًا، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِثْلُ التَّكْبِيرَاتِ، فَأَمَّا الَّذِي يَخْفَى مِثْلُ الْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحَاتِ فَهُمْ لَا يَذْكُرُونَهَا. الثَّالِثُ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ اللَّه فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَقْتَ الصَّلَاةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الصَّلَاةِ إِلَّا قَلِيلًا نَادِرًا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهَكَذَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْإِسْلَامِ، وَلَوْ صَحِبْتَهُ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ لَمْ تَسْمَعْ مِنْهُ تَهْلِيلَةً وَلَا تَسْبِيحَةً، وَلَكِنَّ حَدِيثَ الدُّنْيَا يَسْتَغْرِقُ بِهِ أَيَّامَهُ وَأَوْقَاتَهُ لَا يَفْتُرُ عَنْهُ. الرَّابِعُ: قَالَ قَتَادَةُ إِنَّمَا قِيلَ: إِلَّا قَلِيلًا، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَقْبَلْهُ، وَمَا رَدَّهُ اللَّه تَعَالَى فَكَثِيرُهُ قَلِيلٌ، وَمَا قَبِلَهُ اللَّه فَقَلِيلُهُ كثير ثم قال تعالى:
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)
[في قوله تَعَالَى مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مُذَبْذَبِينَ. إِمَّا حَالٌ من قوله يُراؤُنَ
أو من قوله لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
[النساء: 142] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الذَّمِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مُذَبْذَبِينَ: أَيْ مُتَحَيِّرِينَ، وَحَقِيقَةُ الْمُذَبْذَبِ الَّذِي يُذَبُّ عَنْ كِلَا الْجَانِبَيْنِ، أَيْ/ يُرَدُّ وَيُدْفَعُ فَلَا يَقَرُّ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ الذبذبة فيها تكرير وليس فِي الذَّبِّ، فَكَانَ الْمَعْنَى كُلَّمَا مَالَ إِلَى جَانِبٍ ذُبَّ عَنْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ فِي ذلك أن الفعل يتوقف على الداعي، فإذا كَانَ الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ هُوَ الْأَغْرَاضُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ كَثُرَ التَّذَبْذُبُ وَالِاضْطِرَابُ، لِأَنَّ مَنَافِعَ هَذَا الْعَالَمِ وَأَسْبَابَهُ مُتَغَيِّرَةٌ سَرِيعَةُ التَّبَدُّلِ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ تَبَعًا لِلدَّاعِي، وَالدَّاعِي تَبَعًا لِلْمَقْصُودِ ثُمَّ إِنَّ الْمَقْصُودَ سَرِيعُ التَّبَدُّلِ وَالتَّغَيُّرِ لَزِمَ وُقُوعُ التَّغَيُّرِ فِي الْمَيْلِ وَالرَّغْبَةِ، وَرُبَّمَا تَعَارَضَتِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفُ فَيَبْقَى الْإِنْسَانُ فِي الْحَيْرَةِ وَالتَّرَدُّدِ. أَمَّا مَنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ فِي فِعْلِهِ إِنْشَاءَ الْخَيْرَاتِ الْبَاقِيَةِ، وَاكْتِسَابَ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَعَلِمَ أَنَّ تِلْكَ الْمَطَالِبَ أُمُورٌ بَاقِيَةٌ بَرِيئَةٌ عَنِ التَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ لَا جَرَمَ كَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ ثَابِتًا رَاسِخًا فَلِهَذَا الْمَعْنَى وَصَفَ اللَّه تَعَالَى أَهْلَ الْإِيمَانِ بِالثَّبَاتِ فَقَالَ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [إِبْرَاهِيمَ: 27] وَقَالَ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] وَقَالَ: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الْفَجْرِ: 26] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُذَبْذَبِينَ بِكَسْرِ الذَّالِ الثَّانِيَةِ، وَالْمَعْنَى يُذَبْذِبُونَ قُلُوبَهُمْ أَوْ دِينَهُمْ أَوْ رَأْيَهُمْ، بِمَعْنَى يَتَذَبْذَبُونَ كَمَا جَاءَ صَلْصَلَ وَتَصَلْصَلَ بِمَعْنًى، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ: مُتَذَبْذِبِينَ، وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: مُدَبْدِبِينَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ تَارَةً يَكُونُونَ فِي دُبَّةٍ وَتَارَةً فِي أُخْرَى، فَلَا يَبْقَوْنَ عَلَى دُبَّةٍ