حَاصِلٍ، لِأَنَّ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الثَّانِي كَهِيَ خَلْفَ الْأَوَّلِ، فَلَا يَحْتَاجُ هُنَاكَ إِلَى تَغْيِيرِ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ فَقَالُوا: لَمَّا ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاتَّبِعُوهُ [الْأَعْرَافِ: 158] أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ [التَّوْبَةِ: 103] لَمْ يُوجِبْ كَوْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِلَفْظِ «إِذَا» فَالْجَوَابُ أَنَّ مُقْتَضَاهُ هُوَ الثُّبُوتُ عِنْدَ الثُّبُوتِ، أَمَّا الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِإِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِإِبَاحَةِ تَغْيِيرِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ الْفَضِيلَةِ يُوجِبُ تَرْكَ الْفَرْضِ، فَانْدَفَعَ هَذَا الْكَلَامُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: شَرْحُ صَلَاةِ الْخَوْفِ هُوَ أَنَّ الْإِمَامَ يَجْعَلُ الْقَوْمَ طَائِفَتَيْنِ وَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ إِذَا فَرَغُوا مِنَ الرَّكْعَةِ فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تِلْكَ الطَّائِفَةَ يُسَلِّمُونَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَيَذْهَبُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى وَيُصَلِّي بِهِمُ الْإِمَامُ رَكْعَةً أُخْرَى وَيُسَلِّمُ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لِلْإِمَامِ رَكْعَتَانِ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَةٌ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه وَمُجَاهِدٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي بِتِلْكَ الطَّائِفَةِ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ تَذْهَبُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. الثَّالِثُ: أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ مَعَ الطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً تَامَّةً، ثُمَّ يَبْقَى الْإِمَامُ قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَنْ تُصَلِّيَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ رَكْعَةً أُخْرَى، وَيَتَشَهَّدُونَ وَيُسَلِّمُونَ وَيَذْهَبُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ وَيُصَلُّونَ مَعَ الْإِمَامِ قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَةً، ثُمَّ يَجْلِسُ الْإِمَامُ فِي التَّشَهُّدِ إِلَى أَنْ تُصَلِّيَ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ بِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى يُصَلِّي الْإِمَامُ بِهِمْ رَكْعَةً/ وَيَعُودُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ وَيَنْصَرِفُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَعُودُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَيَقْضُونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ بِقِرَاءَةٍ وَيَنْصَرِفُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَعُودُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيَقْضُونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ بِقِرَاءَةٍ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى أَدْرَكَتْ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، وَهُمْ فِي حُكْمِ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَمْ تُدْرِكْ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، وَالْمَسْبُوقُ فِيمَا يَقْضِي كَالْمُنْفَرِدِ فِي صَلَاتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَتِ الرِّوَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ، فَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ وَالْأَشَدَّ مُوَافَقَةً لِظَاهِرِ الْآيَةِ أَيُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، أَمَّا الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فَقَالَ: الْآيَةُ مُخَالِفَةٌ لِلرِّوَايَاتِ الَّتِي أَخَذَ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى قَدْ صَلَّتْ عِنْدَ إِتْيَانِ الثَّانِيَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ عِنْدَهُ تَأْتِي وَالْأُولَى بَعْدُ فِي الصَّلَاةِ وَمَا فَرَغُوا مِنْهَا. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ صَلَاةِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّ مُطْلَقَ قَوْلِكَ: صَلَّيْتُ مَعَ الْإِمَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّكَ أَدْرَكْتَ جَمِيعَ الصَّلَاةِ مَعَهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالُوا: الْآيَةُ مُطَابِقَةٌ لِقَوْلِنَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لَمْ يَفْرَغُوا مِنَ الصَّلَاةِ، وَلَكِنَّهُمْ يُصَلُّونَ رَكْعَةً ثُمَّ يَكُونُونَ مِنْ وَرَاءِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ لِلْحِرَاسَةِ، وَأَجَابَ الْوَاحِدِيُّ عَنْهُ فَقَالَ: هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا جَعَلْنَا السُّجُودَ وَالْكَوْنَ مِنْ وَرَائِكُمْ لِطَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ لِطَائِفَتَيْنِ السُّجُودُ لِلْأُولَى، وَالْكَوْنُ مِنْ وَرَائِكُمُ الَّذِي