تُعْطِيَنِي أَوْ حَتَّى تُعْطِيَنِي، وَمَعْنَى الْآيَةِ لَيْسَ ذلك مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتَفْرَحَ بِحَالِهِمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَتَتَشَفَّى مِنْهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ مُفَسَّرٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بِخَلْقِ التَّوْبَةِ فِيهِمْ وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ النَّدَمِ فِيهِمْ عَلَى مَا مَضَى، وَخَلْقِ الْعَزْمِ فِيهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَأَكِّدٌ بِبُرْهَانِ الْعَقْلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّدَمَ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولِ إِرَادَةٍ فِي الْمُضِيِّ/ مُتَعَلِّقَةٍ بِتَرْكِ فِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَحُصُولُ الْإِرَادَاتِ وَالْكَرَاهَاتِ فِي الْقَلْبِ لَا يَكُونُ بِفِعْلِ الْعَبْدِ، لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَسْبُوقٌ بِالْإِرَادَةِ، فَلَوْ كَانَتِ الْإِرَادَاتُ فِعْلًا لِلْعَبْدِ لَافْتَقَرَ الْعَبْدُ فِي فِعْلِ تِلْكَ الْإِرَادَةِ إِلَى إِرَادَةٍ أُخْرَى وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ حُصُولَ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَاتِ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ إِلَّا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْوِينِهِ ابْتِدَاءً، وَلَمَّا كَانَتِ التَّوْبَةُ عِبَارَةً عَنِ النَّدَمِ وَالْعَزْمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَاتِ وَالْكَرَاهَاتِ، عَلِمْنَا أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَصَارَ هَذَا الْبُرْهَانُ مُطَابِقًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِمَّا بِفِعْلِ الْأَلْطَافِ أَوْ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ مَنْعَهُ من الدعاء على الكفر صَحَّ الْكَلَامُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ، لِأَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْهَا مَنْعَهُ مِنَ الدُّعَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَهُ صَحَّ الْكَلَامُ أَيْضًا، لِأَنَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَذَابَ الدُّنْيَا، وَهُوَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ وَأَنْ يَكُونَ عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَعِلْمُ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إِلَى اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِهَا تَعْلِيلُ حُسْنِ التَّعْذِيبِ، وَالْمَعْنَى: أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُ إِنْ عَذَّبَهُمْ إِنَّمَا يُعَذِّبُهُمْ لأنهم ظالمون.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ] فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا تَأْكِيدُ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا مِنْ قَوْلِهِ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آلِ عِمْرَانَ: 128] وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ لَهُ الملك، وملك السموات والأرض وليس إلا لله تعالى فالأمر في السموات وَالْأَرْضِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ، وَهَذَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَقُلْ (مَنْ) لِأَنَّ الْمُرَادَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَقَائِقِ وَالْمَاهِيَّاتِ، فَدَخَلَ فِيهِ الْكُلُّ.
أَمَّا قَوْلُهُ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ بِحُكْمِ إِلَهِيَّتِهِ جَمِيعَ الْكُفَّارِ وَالْمَرَدَةِ، وَلَهُ أَنْ يُدْخِلَ النَّارَ بِحُكْمِ إِلَهِيَّتِهِ جَمِيعَ الْمُقَرَّبِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَدَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرَةٌ وَالْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَذَلِكَ أن