أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ فَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَهُ إِلَى الطَّاغُوتِ مَجَازًا بِاتِّفَاقٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الطَّاغُوتِ عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ هُوَ الصَّنَمُ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: 36] فَأَضَافَ الْإِضْلَالَ إِلَى الصَّنَمِ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَجَازًا، خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً لَكُمْ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إِلَى الْكُفَّارِ فَقَطْ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفَّارِ وَالطَّوَاغِيتِ مَعًا، فَيَكُونُ زَجْرًا لِلْكُلِّ وَوَعِيدًا، لِأَنَّ لَفْظَ أُولئِكَ إِذَا كَانَ جَمْعًا وَصَحَّ رُجُوعُهُ إِلَى كِلَا الْمَذْكُورَيْنِ، وَجَبَ رُجُوعُهُ إِلَيْهِمَا مَعًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 258 الى 259]

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

[القصة الاول]

اعلم إنه تعالى ذكر هاهنا قِصَصًا ثَلَاثَةً: الْأُولَى: مِنْهَا فِي بَيَانِ إِثْبَاتِ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ، وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ: فِي إِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ، وَالْقِصَّةُ الْأُولَى مُنَاظَرَةُ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَلِكِ زَمَانِهِ وَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا فَنَقُولُ:

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ فَهِيَ كَلِمَةٌ يُوقَفُ بِهَا الْمُخَاطَبُ عَلَى تَعَجُّبٍ مِنْهَا، وَلَفْظُهَا لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ وَهِيَ كَمَا يُقَالُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى فُلَانٍ كَيْفَ يَصْنَعُ، مَعْنَاهُ: هَلْ رَأَيْتَ كَفُلَانٍ فِي صُنْعِهِ كَذَا.

أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ فَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ نَمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ/ تَجَبَّرَ وَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ هَذِهِ الْمُحَاجَّةِ قِيلَ: إِنَّهُ عِنْدَ كَسْرِ الْأَصْنَامِ قَبْلَ الْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ عَنْ مُقَاتِلٍ، وَقِيلَ: بَعْدَ إِلْقَائِهِ فِي النَّارِ، وَالْمُحَاجَّةُ الْمُغَالَبَةُ، يُقَالُ: حَاجَجْتُهُ فَحَجَجْتُهُ، أَيْ غَالَبْتُهُ فَغَلَبْتُهُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فِي رَبِّهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الطَّاعِنِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، كَمَا قَالَ: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ [الْأَنْعَامِ: 80] وَالْمَعْنَى وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ فِي رَبِّهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْهَاءَ فِي آتَاهُ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَى إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُلْكَ، وَاحْتَجُّوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النِّسَاءِ: 54] أَيْ سُلْطَانًا بِالنُّبُوَّةِ، وَالْقِيَامِ بِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي: أنه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015