وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ، وَهُمْ أَعْرَابُ جُهَيْنَةَ وَمُزَيْنَةَ وَأَسْلَمَ وَأَشْجَعَ وَغِفَارٍ، كَانُوا يَقُولُونَ: آمَنَّا لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا اسْتُنْفِرُوا إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ تَخَلَّفُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "قَالْتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا" (?) صَدَّقْنَا.
{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} انْقَدْنَا وَاسْتَسْلَمْنَا مَخَافَةَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ، فِي قُلُوبِكُمْ} فَأَخْبَرَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَأَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ وَإِظْهَارِ شَرَائِعِهِ بِالْأَبْدَانِ لَا يَكُونُ إِيمَانًا دُونَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالْإِخْلَاصِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ، قَالَ: فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ رَجُلًا لَمْ يُعْطِهِ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فساررته] (?) ، فقلت: مالك عَنْ فُلَانٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّي لِأَرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ: أَوْ مُسْلِمًا، قَالَ: فَسَكَتَ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رسول الله مالك عَنْ فُلَانٍ فَوَاللَّهِ إِنِّي لِأَرَاهُ مُؤْمِنًا؟ قَالَ: أَوْ مُسْلِمًا، قَالَ: "إِنِّي لِأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ" (?) .
فَالْإِسْلَامُ هُوَ الدُّخُولُ فِي السِّلْمِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ، يُقَالُ: أَسْلَمَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي السِّلْمِ كَمَا يُقَالُ: أَشْتَى الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي الشِّتَاءِ، وَأَصَافَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّيْفِ، وَأَرْبَعَ إِذَا دَخَلَ فِي الرَّبِيعِ، فَمِنَ الْإِسْلَامِ مَا هُوَ طَاعَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِاللِّسَانِ، وَالْأَبْدَانِ وَالْجَنَانِ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ" (الْبَقَرَةِ-131) ، وَمِنْهُ مَا هُوَ انْقِيَادٌ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ، فِي قُلُوبِكُمْ} .
{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ظَاهِرًا وَبَاطِنًا سِرًّا وَعَلَانِيَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تُخْلِصُوا الْإِيمَانَ، {لَا يَلِتْكُمْ} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو "يَأْلِتْكُمْ" بِالْأَلْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمَا أَلَتْنَاهُمْ" (الطُّورِ-21) وَالْآخَرُونَ بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ، مَعْنَاهُمَا: لَا يَنْقُصُكُمْ، يُقَالُ: أَلِتَ يَأْلِتُ أَلْتًا وَلَاتَ يَلِيتُ لَيْتًا إِذَا نَقُصَ،