قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، أَيْ: وَمَا يَكُنْ بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ، القحط والمرض، فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ، تَضِجُّونَ وَتَصِيحُونَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ.
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) .
لِيَكْفُرُوا، ليجحدوا، بِما آتَيْناهُمْ، وَهَذِهِ اللَّامُ تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ، أَيْ: حَاصِلُ أَمْرِهِمْ هُوَ كُفْرُهُمْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ أَعْطَيْنَاهُمْ مِنَ النَّعْمَاءِ وَكَشْفِ الضَّرَّاءِ [1] وَالْبَلَاءِ، فَتَمَتَّعُوا، أَيْ: عِيشُوا فِي الدُّنْيَا الْمُدَّةَ الَّتِي ضَرَبْتُهَا لَكُمْ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ.
وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ، لَهُ حَقًّا أَيِ: الْأَصْنَامِ، نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ، مِنَ الْأَمْوَالِ وَهُوَ مَا جَعَلُوا لِلْأَوْثَانِ مِنْ حُرُوثِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا، ثُمَّ رَجَعَ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الخطاب فقال: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ، فِي الدُّنْيَا.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ، وَهُمْ خُزَاعَةُ وَكِنَانَةُ، قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى. سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، أَيْ: وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمُ البنين الذين يشتهونهم فيكون مَا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، وَيَجُوزُ أن يكون على الابتداء فيكون ما في محل الرفع.
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا، مُتَغَيِّرًا مِنَ الْغَمِّ والكراهية، وَهُوَ كَظِيمٌ [2] ممتلىء حُزْنًا وَغَيْظًا فَهُوَ يَكْظِمُهُ، أَيْ: يمسكه ولا يظهره.
يَتَوارى، أَيْ: يَخْتَفِي، مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ، مِنَ الْحُزْنِ وَالْعَارِ ثُمَّ يَتَفَكَّرُ أَيُمْسِكُهُ، ذَكَرَ الْكِنَايَةَ رَدًّا عَلَى مَا عَلى هُونٍ أَيْ: هَوَانٌ، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ، أَيْ: يخفيه [فيه] [3] فَيَئِدُهُ، وَذَلِكَ أَنْ مُضَرَ وَخُزَاعَةَ وَتَمِيمًا كَانُوا يَدْفِنُونَ الْبَنَاتِ أَحْيَاءً خوفا من الفقر عليهن [4] وَطَمَعِ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ فِيهِنَّ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَرَبِ إِذَا وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْيِيَهَا أَلْبَسَهَا جُبَّةً مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ وَتَرَكَهَا تَرْعَى لَهُ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهَا تَرَكَهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ سُدَاسِيَّةً قَالَ لِأُمِّهَا زَيِّنِيهَا حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إِلَى أَحْمَائِهَا، وَقَدْ حَفَرَ لَهَا بِئْرًا فِي الصَّحْرَاءِ فَإِذَا بَلَغَ بِهَا الْبِئْرَ قَالَ لَهَا انْظُرِي إِلَى هَذِهِ الْبِئْرِ فَيَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا فِي الْبِئْرِ ثُمَّ يُهِيلُ عَلَى رَأْسِهَا التُّرَابَ حَتَّى يَسْتَوِيَ الْبِئْرُ بِالْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ وَكَانَ صَعْصَعَةُ عَمُّ الْفَرَزْدَقِ إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَّهَ إِلَى وَالِدِ الْبِنْتِ إِبِلًا يُحْيِيهَا بِذَلِكَ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ يَفْتَخِرُ بِهِ:
وَعَمِّي الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ ... فأحيا الوئيد فلم يوأد
أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ، بِئْسَ مَا يَقْضُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ وَلِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ، نَظِيرُهُ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى