يفيد تخليص مسلم من غير إضرار بمسلم آخر، وأما المفاداة بمال فلا تجوز في المشهور من مذهب الحنفية لما بين في المفاداة بالمسلمين من ردهم حربا علينا. وفي السير الكبير أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة. قيل: استدلالا بأسارى بدر فإنه لا شك في احتياج المسلمين بل في شدة حاجتهم إذ ذاك فليكن محمل المفاداة الكائنة في بدر بالمال. وأما المن على الأسارى وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز عند أبي حنيفة ومالك وأحمد، وأجازه الإمام الشافعي لأنه صلّى الله عليه وسلّم من على جماعة من أسرى بدر منهم أبو العاص بن أبي الربيع على ما ذكره ابن اسحق بسنده.
وأبو دواد من طريقه إلى عائشة لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة أدخلته بها على أبي العاص حين بنائه عليها فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك رق لها رقة شديدة وقال لأصحابه: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا لها الذي لها» ففعلوا ذلك مغتبطين به، ورواه الحاكم وصححه وزاد «وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أخذ عليه أن يخلي زينب إليه ففعل»
ومنّ صلّى الله عليه وسلّم على ثمامة بن أثال ابن النعمان الحنفي سيد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه، وحديثه في صحيح مسلم عن أبي هريرة، ويكفي ما
ثبت في صحيح البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام: «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى- يعني أسارى بدر- لتركتهم له»
فإنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر وهو الصادق المصدوق بأنه يطلقهم لو سأله المطعم، والإطلاق على ذلك التقدير لا يثبت إلا وهو جائز شرعا لمكان العصمة، وكونه لم يقع لعدم وقوع ما علق عليه لا ينفي جوازه شرعا.
واستدل أيضا بالآية التي تحت فيها فإن الله تعالى خير فيها بين المن والفداء، والظاهر إن المراد بالمن الإطلاق مجانا وكون المراد المن عليهم بترك القتل وإبقاءهم مسترقين أو تخليتهم لقبول الجزية وكونهم من أهل الذمة خلاف الظاهر، وبعض النفوس يجد طعم الالاء أحلى من هذا المن. وأجاب بعض الحنفية بأن الآية منسوحة بقوله تعالى:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] من سورة براءة فإنه يقتضي عدم جواز المن وكذا عدم جواز الفداء وهي آخر سورة نزلت في هذا الشأن، وزعم أن ما وقع من المن والفداء إنما كان في قضية بدر وهي سابقة عليها وإن كان شيء من ذلك بعد بدر فهو أيضا قبل السورة.
والقول بالنسخ جاء عن ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد في روايات ذكرها الجلال السيوطي في الدر المنثور، وقال العلامة ابن الهمام: قد يقال إن ذلك- يعني ما في سورة براءة- في حق غير الأسارى بدليل جواز الاسترقاق فيهم فيعلم أن القتل المأمور به في حق غيرهم، وما ذكره في جواز الاسترقاق ليس على إطلاقه إذ لا يجوز كما علمت استرقاق مشركي العرب حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي آلاتها وأثقالها من السلاح وغيره، قال الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا
ومن نسج داود موضونة ... تساق إلى الحرب عيرا فعيرا
وهي في الأصل الأحمال فاستعيرت لما ذكر استعارة تصريحية، ويجوز أن يكون في الْحَرْبُ استعارة مكنية بأن تشبه بإنسان يحمل حملا على رأسه أو ظهره ويثبت لها ما أثبت تخييلا، وكلام الكشاف أميل إليه، وقيل:
هي أحمال المحارب أضيفت للحرب تجوزا في النسبة الإضافية وتغليبا لها على الكراع، وإسناد الوضع للحرب مجاري أيضا وليس بذاك. وعد بعض الأماثل الكلام تمثيلا، والمراد حتى تنقضي الحرب وقال: يجوز أن يكون إرادة ذلك من باب المجاز المتفرع على الكناية كما في قوله: فألقت عصاها واستقر بها النوى. فإنه كنى به عن انقضاء السفر والإقامة، قيل: الأوزار جمع وز بمعنى إثم وهو هنا الشرك والمعاصي، و «تضع» بمعنى تترك مجازا، وإسناده